الخميس، 18 يوليو 2019

01 -شرح أصول السنة للإمام أحمد


شرح أصول السنة للإمام أحمد بن حنبل

مقدمة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، أشهد أنه رسول الله إلى الثقلين الجن والإنس إلى العرب والعجم، وأشهد أنه خاتم النبيين لا نبي بعده، وأنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة , وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه من ربه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آله وأصحابه وعلى أتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
فإني أحمد الله إليكم وأثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من فضله، وأسأله سبحانه أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، ونياتنا وذرياتنا، كما أسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصوما، وأن لا يجعل فينا ولا منا شقيًا ولا محرومًا، كما أسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماع خير وعلم تغشاه الرحمة، وتحفه الملائكة، ويذكره الله فيمن عنده، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده »(1) .
أيها الإخوان إن خير ما أنفق فيه الإنسان عمره، وأوقاته وأنفاسه طلب العلم وتعلم العلم وتعليمه، الذي هو من أفضل العبادات وأجل القربات، والذي قر أهل العلم أنه أفضل من نوافل العبادة، فتعلم العلم وتعليمه أفضل من نوافل العبادة، إذا تعارضت نافلة من نوافل العبادات، كالصلاة والصيام أو الحج، مع تعلم العلم وتعليمه، فإن تعلم العلم وتعليمه مقدم، وما ذاك إلا لأن نوافل الصلاة والصيام، والزكاة والحج، قاصر نفعه على صاحبه. أما العلم تعلمًا وتعليمًا فإن نفعه متعد؛ لأن الإنسان إذا تعلم وتبصر وتفقه في شريعة الله رفع الجهل عن نفسه، لأن الأصل أن الإنسان لا يعلم قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾(2) وقال -سبحانه وتعالى- لنبيه الكريم: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾(3) .
فالأصل في الإنسان أنه لا يعلم، ثم يتعلم، ويتبصر فيرفع الجهل عن نفسه، ثم يرفع الجهل عن غيره، وبهذا يكون الإنسان إذا تعلم وعمل، ثم نشر علمه وصبر على الأذى يكون من الرابحين، الذين استثناهم الله في قوله سبحانه: ﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾(4) أقسم الله -سبحانه وتعالى- وهو الصادق أن جنس الإنسان في خسارة ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾(5) إلا من اتصف بهذه الصفات الأربعة: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾(6) والإيمان مبني على العلم والبصيرة ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾(6) حسن العمل ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾(6) هذه الدعوة إلى الله ونشر العلم ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾(6) هؤلاء هم الرابحون أهل السعادة، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
فلا بد لطالب العلم أن يستشعر هذا الأمر وأنه في عبادة، وعليه أن يخلص لله -عز وجل- في عبادته، فإذا كان تعلم العلم وتعليمه من العبادات العظيمة، فعلى أهل العلم أن يخلصوا أعمالهم لله -عز وجل- لأن العبادة لا تصح ولا تكون نافعة، ولا مقبولة عند الله، حتى يتحقق فيها: الإخلاص لله، والمتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم، ركنان أساسيان لا بد منهما في كل عبادة، تتعبد بها لله -عز وجل- تعلم العلم وتعليمه، لا بد أن يكون العمل خالصًا لله صلاتك وصيامك، وزكاتك وحجك، برك للوالدين وصلتك للرحم، وتعلمك للعلم، وتعليمك للعلم، لا بد أن يكون خالصًا لله، مرادًا به وجه الله، ولا بد أن تكون متابعًا في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذان أمران وهذان ركنان أساسيان لا تصح أي عبادة إلا بهما، قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾(7) والعمل الصالح، ما كان لله، والعمل الذي ليس فيه شرك، ما كان خالصًا لله: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾(8) وإسلام الوجه هو الإخلاص لله قال -سبحانه وتعالى- ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾(9) .
وثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى »(10) الأعمال بالنيات، قال أهل العلم: هذا الحديث نصف الدين؛ لأن الدين ظاهر وباطن، وهذا الحديث فيه بيان حكم الباطن « إنما الأعمال بالنيات »(10) النية أمر باطني « وإنما لكل امرئ ما نوى »(10) وهذا الأصل، وهو أن يكون العمل خالصًا لله، هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وإذا تخلف حل محله الشرك.
ودل على الأصل الثاني ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد »(11) وفي لفظ لمسلم: « من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد »(12) هذا يتعلق بالظاهر، والحديث الأول: « إنما الأعمال بالنيات »(10) يتعلق بالباطن، وهذا يتعلق بالظاهر.
وإذا تخلف الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم حل محله البدعة، فلا بد للمسلم أن يصحح نيته، ويجاهد نفسه في إخلاص العمل لله عز وجل، حتى يكون العمل مقبولا ونافعا عند الله، وحتى يكون مباركًا. أما إذا دخل العمل الشرك كالرياء، وخالطه وخامره فإن العمل يكون باطلًا، يكون العمل باطلًا.
والرياء يكون شركًا أكبر كرياء المنافقين، الرياء الكثير هو رياء المنافقين الذين دخلوا في الإسلام نفاقًا كعبد الله بن أبي وغيره، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء أشركوا شركًا أكبر، فأعمالهم حابطة، ولا يقبل منهم أي عمل، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾(13) .
النوع الثاني: رياء أصغر رياء يسير وهو الرياء الذي يصدر من المؤمن، المؤمن أسلم لله، دخل في الإسلام لا نفاقًا، بل دخل في الإسلام عن إخلاص وصدق، ولكنه يرائي في بعض عمله، يرائي في صلاته، أو في صيامه، أو في حجه، أو في زكاته، أو في تعلمه أو تعليمه، فيكون هذا الرياء يحبط العمل، يحبط العمل الذي قارنه فقط يكون شركا أصغر، يبطل هذا العمل الذي قارنه، لكن إذا كان الرياء خاطرًا خطر الرياء فدفعه الإنسان وطرده واستعاذ بالله من الشيطان فإنه لا يضره، أما إذا استرسل الرياء واستمر إلى آخر العمل وآخر العبادة فقيل: إنه يحبط العمل، وقيل: يجازى بنيته الأولى.
قد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: قارئ أو عالم، ومجاهد قتل في المعركة، ومتصدق أنفق أمواله في سبل الخيرات.
ويؤتى بالمقاتل الذي قتل في المعركة فيوقف بين يدي الله فيقول الله: ماذا عملت؟، فيقول: ربي قاتلت في سبيلك حتى قتلت ابتغاء وجهك، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، وإنما فعلت ذلك ليقال شجاع وليقال جريء، فقد قيل، وليس لك إلا ذلك، ثم يأمر الله به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار.
ويؤتى بالمتصدق الذي أنفق أمواله في سبل الخيرات فيوقف بين يدي الله، فيقول الله له: ماذا عملت؟ فيقول: يا ربي ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها ابتغاء وجهك، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، وإنما فعلت ذلك ليقال جواد وليقال كريم، فقد قيل وليس لك إلا ذلك، ثم يأمر الله به فيسحب على وجهه فيلقى في النار »
(14) -قال أبو هريرة رضي الله عنه: فهؤلاء الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة، رواه مسلم في صحيحه.
هؤلاء الثلاثة ما الذي جعل أعمالهم -وهي في ظاهرها عبادات عظيمة- تنقلب وبالًا عليهم؟ ما الذي جعلها تنقلب وتكون وبالًا عليهم؟ النية السيئة، الرياء، أرادوا بأعمالهم غير وجه الله، وإلا لو كانت أعمالهم خالصة لله، لكانت منزلتهم عالية.
العالم أو القارئ لو كان عمله خالصًا لله، لكان من الصديقين، الذين يلون مرتبة الأنبياء، لو كان العالم أو القارئ الذي نشر علمه أراد بذلك وجه الله لكان من الصديقين، وهم الذين يلون مرتبة الأنبياء، والذي قتل في المعركة لو كان مريدًا بجهاده وجه الله لكان من الشهداء، الذين يلون مرتبة الصديقين في المرتبة الثالثة، والمتصدق الذي أنفق أمواله في سبل الخيرات، لو كان مخلصًا لله لكان من الصالحين، الذين يلون مرتبة الشهداء؛ لأن المؤمنين الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل لهم أربع مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة الأنبياء، والمرتبة الثانية: مرتبة الصديقين، والمرتبة الثالثة: مرتبة الشهداء، والمرتبة الرابعة: مرتبة الصالحين، قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾(15) .
إذًا على طالب العلم أن يجاهد نفسه، حتى يكون تعلمه على أهل العلم، كل واحد عليه أن يجاهد نفسه، في تعلمه وتعليمه، حتى يكون يريد بذلك وجه الله والدار الآخرة لا رياء ولا سمعة، والنية هي أساس العمل، وإصلاح النية من أصعب الأمور، قيل للإمام أحمد: كيف ينوي في طلبه العلم؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه، ورفع الجهل عن غيره، ينوي به ذلك؛ يعني لا يريد الدنيا ولا المال ولا المناصب ولا الجاه، ولا الشهرة، ولا الوظيفة، وإنما ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، يتعلم العلم لله، وفي الحديث: « من تعلم العلم ليماري به العلماء أو ليجاري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، لم يرح رائحة الجنة »(16) أو كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا بد لطالب العلم، لأهل العلم أن يستشعر -طالب العلم والمتعلم والمعلم- أن يستشعر العبادة يستشعر هذه العبادة العظيمة، وأنه في عبادة من أجل العبادات وأشرف القربات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، وأشرف العلم، العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله، العلم بالله، العلم بالله هو أشرف العلوم، العلم بالله أشرف العلوم؛ لأن العلم ثلاثة أنواع: علم بالله، وعلم بدين الله، وعلم بالجزاء يوم القيامة. هذه هي أنواع العلم، أشرف العلوم العلم بالله، لأن شرف العلم من شرف المعلوم، أشرف العلوم الثلاثة العلم بالله، بأسمائه وصفاته، وأفعاله، أن تعلم أن ربك سبحانه وتعالى موجود، وأن له ذات لا تشبه الذوات، وأنه فوق العرش مستو على عرشه بائن من خلقه، وأنه كامل في ذاته، وأن له الأسماء الحسنى، والصفات العلى التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن الله لا يماثل أحدًا من خلقه لا في ذاته، ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، هذا هو العلم بالله؛ توحد الله في ربوبيته، وتوحد الله في ألوهيته، وتوحد الله في أسمائه وصفاته.
وهذه هي أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الله، هو توحيد الله بأفعاله هو، هو أن توحد الله بأفعاله هو، بأن تعتقد أن الله هو الخالق الرازق، المدبر، المحيي المميت، وأنه مدبر الأمور، وأنه المتصرف، وأنه لا شريك له في ذلك، لا أحد يشاركه، في تدبيره، ولا في ملكه، ولا في ربوبيته، ولا في خلقه، هذا هو توحيد الربوبية توحد الله بأفعاله هو، يعني تعتقد أن الله موجود، وأنه الخالق وغيره مخلوق، وأنه الرب وغيره مربوب، وأنه مالك وغيره مملوك، وأنه مدبِّر وغيره مُدبَّر، وبهذا تكون وحدت الله في ربوبيته.
ثم توحد الله في أسمائه وصفاته؛ بأن تؤمن بالأسماء والصفات التي سمى الله بها نفسه، أو سماه بها رسوله عليه الصلاة والسلام، أو وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله عليه الصلاة والسلام في الكتاب والسنة، الأسماء والصفات توقيفية، العباد لا يخترعون له أسماء وصفات، الله سمى نفسه "الله" علم على الذات الإلهية، لا يسمى به غيره، وكل اسم مشتمل على صفة، الله أعرف المعارف لا يسمى به غير الله، مشتمل على صفة الألوهية، الرحمن مشتمل على صفة الرحمة، الرحيم كذلك، العليم مشتمل على صفة العلم، القدير مشتمل على صفة القدرة، السميع مشتمل على صفة السمع، البصير مشتمل على صفة البصر، تؤمن بأن الله عالم الغيب والشهادة، وأنه الرحمن، وأنه الرحيم، تؤمن بأن الله الملك، وأنه القدوس، السلام، المؤمن المهيمن، العزيز، الجبار المتكبر، تؤمن بأن الله هو الخالق الرازق، المدبر، المحيي المميت، البارئ المصور، وأن له الأسماء الحسنى.
تؤمن بكل صفة: صفة العلو، صفة الرضا، صفة الغضب، صفة السخط، صفة العزة، والعظمة، والكبرياء، إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة. فتكون بذلك وحدت الله في أسمائه وصفاته.
ثم توحد الله في ألوهيته وعبادته، بأن تصرف العبادة والقربة التي تتقرب بها لله عز وجل، فلا تعبد إلا الله، والقربات والعبادات هي الأوامر والنواهي التي جاءت في الكتاب والسنة، أمر الله بالصلاة هذه عبادة، توحد الله بها، لا تصل إلا لله، أمرك الله بالزكاة لا تزك إلا لله، الصوم لا تصم إلا لله، الحج لا تحج إلا لله، الذبح لا تذبح إلا لله، النذر لا تنذر إلا لله، الدعاء لا تدع إلا الله، النذر لا تنذر إلا لله، التوكل، الرغبة الرهبة، الإنابة إلى آخره، وبذلك تكون وحدت الله في ربوبيته، وفي ألوهيته، وفي أسمائه وصفاته، فتكون مؤمنًا بالله، هذا هو الإيمان بالله.
هذا النوع الأول: العلم بالله، يعني بأسمائه وصفاته وأفعاله.
والنوع الثاني: العلم بدين الله، وهي الأوامر والنواهي، التي شرعها الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والعلم الثالث: العلم بالجزاء؛ جزاء المؤمنين الموحدين في الجنة، وما أعد الله لهم من الكرامة، تؤمن بيوم القيامة وباليوم الآخر، وما فيه من البعث والجزاء والحساب، والحشر، والنشر والحوض، والميزان، والصراط والجنة والنار، تؤمن بالجزاء؛ جزاء ما أخبر الله به، جزاء الموحدين، الجنة والكرامة، والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم، وجزاء الكفار والعصاة النار التي أعدها الله لهم.
هذه أنواع العلم، قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-:

مِـن رَابِـعٍ وَالحَـقُّ ذُو تِبيَــانِ
عِلـمٌ بِأوصَـافِ الإِلَــهِ وَفِعلِـهِ

وَكَــذَلِكَ الأســمَاءُ لِلرَّحــمَنِ
وَالأمــرُ وَالنَّهيُ الذِي هُوَ دِينُـهُ

وَجَـزَاؤهُ يَـومَ المَعَــادِ الثَّـانِي
هذه أوصافه وأفعاله.

وَكَــذَلِكَ الأســمَاءُ لِلرَّحــمَنِ
هذا العلم الأول.

...................................
هذا الثاني.

وَجَـزَاؤهُ يَـومَ المَعَــادِ الثَّـانِي
هذا الثالث.
هذه هي أقسام العلوم، ما عدا هذا العلم بأقسامه الثلاثة هذا هو العلم الشرعي، وما عدا ذلك فإنها علوم أخرى علوم دنيوية، زي علم الطب، علم الفلك، علم الطبيعة، علم الزراعة، علم الصيدلة، وكذلك سائر العلوم، علم الإدارة، علم السباكة، علم النجارة، علم الحدادة، إلى غير ذلك من العلوم، هذه علوم دنيوية، وهي فرض كفاية، إذا طلب منها بما يكفي إذا أحسن الإنسان النية فله أجر وله ثواب، وإن قصد الدنيا فلا بأس، فهي علوم دنيوية، تعلم الطب أو الهندسة أو الصيدلة، أو الفلك والرياضة حتى تتعيش ويكون لك حرفة لا بأس، تعلم للدنيا لا بأس، أنت مأمور بأن تكسب، تكسب، إذا حسنت نيتك وقصدت بذلك أن تكسب المكسب الشرعي لنفسك وتنفق على نفسك وأهلك لا بأس، وإن زدت على ذلك ونويت بذلك أن تغني المسلمين عن الحاجة إلى غيرهم من الكفار، فأنت مأجور بهذه النية.
لكن العلم الشرعي لا يجوز أن تتعلم لأجل الدنيا، لا يجوز العلم الشرعي أن تقصد به الدنيا، تعلم علم الكتاب والسنة لأجل أن تحصل على المال أو على الوظيفة أو على المرتبة هذا لا يجوز ما يجوز؛ لأن هذه علوم الآخرة، علوم الشريعة، تتعلم لله، تتعبد لله، فإن تعلمت لأجل الدنيا فعليك الوعيد الشديد، في الحديث: « من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة »(17) ؛ لأنك قصدت بهذه العبادة الدنيا وحطامها، والله تعالى يقول في كتابه العظيم: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾(18) فرق بين علوم الآخرة وعلوم الدنيا، فرق بين العلم الشرعي والعلم الدنيوي. العلم الدنيوي لا بأس أن تتعلمه لأجل الدنيا ما في مانع، لكن إن زدت وصار لك نية بأن تفيد المسلمين وتغني المسلمين عن الحاجة إلى الكفرة وغيرهم فأنت مأجور، لكن علوم الشريعة لا يجوز أن تتعلم لأجل الدنيا أبدًا، بل ما جاءك من الدنيا يكون وسيلة، وسيلة معينة على تعلم العلم الشرعي.
ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، ونسأله أن يوفقنا للعمل الصالح الذي يرضيه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا، ونسأله أن يعيذنا من الرياء والسمعة، وأن يوفقنا للعمل الصالح الذي يرضيه، وأن يثبتنا على دينه القويم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والرسالة التي سوف نشرحها إن شاء الله في هذه الدورة التي بين أيديكم، أصول السنة لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
معلوم للمسلم مذهب السلف الصالح؛ الصحابة والتابعين وأنهم يؤمنون بالكتاب والسنة، ويؤمنون بالأسماء والصفات، ويمرونها الصفات يمرونها كما جاءت ولا يئولون ولا يحرفون كأهل البدع.
أما أهل البدع الذين ظهروا في أواخر عهد الصحابة، الخوارج، والمعتزلة والمرجئة والجهمية، والأشعرية والقدرية وغيرهم، فهؤلاء فرق من فرق الضلال انحرفوا عن الجادة وضلوا عن الصراط المستقيم، وهم أقسام: منهم الكافر، ومنهم المؤمن. هؤلاء أهل بدع قد تكون بدع مكفرة تخرج الإنسان من الملة كبدعة القدرية الأولى الذين أنكروا العلم والكتاب، وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم بالأشياء حتى تقع. فهؤلاء كفرهم الصحابة؛ لأنهم نسبوا الله إلى الجهل، قالوا: إن الأمر أنف مستأنف وجديد، كفرهم الصحابة كابن عمر وغيره، ثم انقرضوا وبقيت الفرقة المتوسطة الذين يؤمنون بالعلم والكتاب ولكنهم ينكرون عموم الإرادة والمشيئة وعموم الخلق، فأخرجوا أفعال العباد من مشيئة الله وخلقه، لشبهة عرضت لهم وهؤلاء مبتدعة.
ومثل أيضًا الجهمية الذين أنكروا الأسماء والصفات؛ لأنه في الحقيقة أن جحد الأسماء والصفات ينتج العدم ما أثبتوا ذات، الذات لا وجود لها إلا بالأسماء والصفات، ولهذا كفرهم من العلماء خمسمائة عالم، خمسمائة عالم كفروا الجهمية، كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-

عَشـرٍ مِـنَ العُلَمَـاءِ في البُلـدَانِ
وَاللاَّلَكَـائِيُّ الإمـامُ حَكَـاهُ عَنهُم

بـل قـد حَكَـاهُ قَبلَـهُ الطَّــبَرَانِي

وكذلك الرافضة كفرهم العلماء، وأخرجوهم من الثنتين والسبعين فرقة، والرافضة هم الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين لما سألوه عن أبي بكر وعمر، فقال: هما وزيرا جدي رسول الله، فرفضوه، فقال: رفضتموني؛ وسموا بالرافضة، وكانوا قبل ذلك يسمون بالخشبية، وهؤلاء وقعوا في ثلاثة أنواع من الكفر:
النوع الأول: أنهم يعبدون أهل البيت؛ علي وفاطمة والحسن والحسين ويتوسلون بهم وهذا شرك.
النوع الثاني من الكفر: أنهم كذبوا الله بأن القرآن محفوظ؛ قالوا: إن القرآن ما هو بمحفوظ، ما بقي إلا الثلث، وثلثا القرآن طار وذهب، ويدعون أن عندهم مصحف يسمى مصحف فاطمة يعادل المصحف الذي بين يدي أهل السنة ثلاث مرات، والله تعالى يقول في كتابه العظيم: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾(19) كذبوا الله في هذا، ومن كذب الله كفر.
هناك فرق مبتدعة، هناك فرق الشيعة: الزيدية وغيرهم. هناك المعتزلة، الجمهور على أنهم مبتدعة وهناك من كفرهم، هناك الأشاعرة مبتدعة وهكذا.
فالإمام أحمد رحمه الله في هذه الرسالة يقرر مذهب أهل السنة والجماعة، ويبين مذهب أهل البدع، وأنهم مخالفون لمذهب أهل السنة والجماعة، ومعروف أن الإمام أحمد هو إمام أهل السنة والجماعة، كما هو معروف لدى الجميع، وقد امتحن في مسألة القول بخلق القرآن فثبته الله، ثبته الله وصبر على الأذى والسجن والضرب، حتى نصره الله، والله تعالى كما قال بعض العلماء: إن الله تعالى حفظ الإسلام بأبي بكر الصديق يوم الردة، وحفظ الإسلام بالإمام أحمد يوم المحنة، نبدأ الرسالة ليقرأ أحد الإخوان من أولها.
(1) مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) , والترمذي : القراءات (2945) , وأبو داود : الصلاة (1455) , وابن ماجه : المقدمة (225) , وأحمد (2/252).
(2) سورة النحل (سورة رقم: 16)؛ آية رقم:78
(3) سورة الضحى (سورة رقم: 93)؛ آية رقم:7
(4) سورة العصر (سورة رقم: 103)؛ آية رقم:1 - 3
(5) سورة العصر (سورة رقم: 103)؛ آية رقم:2
(6) سورة العصر (سورة رقم: 103)؛ آية رقم:3
(7) سورة الكهف (سورة رقم: 18)؛ آية رقم:110
(8) سورة لقمان (سورة رقم: 31)؛ آية رقم:22
(9) سورة البقرة (سورة رقم: 2)؛ آية رقم:112
(10) البخاري : بدء الوحي (1) , ومسلم : الإمارة (1907) , والترمذي : فضائل الجهاد (1647) , والنسائي : الطهارة (75) , وأبو داود : الطلاق (2201) , وابن ماجه : الزهد (4227) , وأحمد (1/25).
(11) البخاري : الصلح (2697) , ومسلم : الأقضية (1718) , وأبو داود : السنة (4606) , وابن ماجه : المقدمة (14) , وأحمد (6/256).
(12) مسلم : الأقضية (1718) , وأحمد (6/146).
(13) سورة النساء (سورة رقم: 4)؛ آية رقم:145
(14) مسلم : الإمارة (1905) , والترمذي : الزهد (2382) , والنسائي : الجهاد (3137) , وأحمد (2/321).
(15) سورة النساء (سورة رقم: 4)؛ آية رقم:69
(16) الترمذي : العلم (2654).
(17) أبو داود : العلم (3664) , وابن ماجه : المقدمة (252) , وأحمد (2/338).
(18) سورة هود (سورة رقم: 11)؛ آية رقم:15 - 16
(19) سورة الحجر (سورة رقم: 15)؛ آية رقم:9
(20) سورة النساء (سورة رقم: 4)؛ آية رقم:95
(21) سورة الفتح (سورة رقم: 48)؛ آية رقم:29
(22) سورة التوبة (سورة رقم: 9)؛ آية رقم:100
(23) سورة الفتح (سورة رقم: 48)؛ آية رقم:18
(24) الترمذي : المناقب (3860). 

= هنا =

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق