الجمعة، 19 يوليو 2019

14- شرح أصول السنة للإمام أحمد

الإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال -رحمه الله تعالى- "والإيمان بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبقوم يُخرَجون من النار بعدما احترقوا وصاروا فحمًا فيؤمر بهم إلى نهر على باب الجنة كما جاء في الأثر كيف شاء الله وكما شاء، إنما هو الإيمان به والتصديق به".

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد.
قال الإمام أحمد -رحمه الله- في رسالة أصول السنة والإيمان بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني ومن السنة، ومن أصول السنة عند أهل السنة الإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما سبق أنواع له ثلاث شفاعات اختص بها، وثلاث شفاعات شاركه فيها غيره.
فالشفاعات الخاصة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أولها الشفاعة العظمى التي تكون في موقف القيامة، والتي يتأخر عنها أولو العزم، والتي يموج الناس فيها بعضهم ببعض، وهي عامة للمؤمن والكافر لإراحة أهل الموقف، لإراحة أهل الموقف حتى يحاسبهم الله، هذه هي الشفاعة العظمى خاصة بنبينا -صلى الله عليه وسلم- وهي التي المقام المحمود التي يغبطه فيها الأولون والآخرون، وهي المذكورة في قول الله تعالى: ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾(1) ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾(2) .
﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾(1) هذا هو المقام المحمود، وذلك أن الناس يقفون بين يدي الله للحساب حفاة عراة غرلًا وتدنو الشمس من الرءوس ويزاد في حرارتها، ويبلغ الناس من الكرب والهم والغم ما الله به عليم، فيموج الناس بعضهم في بعض ويفزعون إلى الأنبياء يطلبون منهم الشفاعة، والشفاعة من الحي الحاضر القادر لا بأس بها، بخلاف الشفاعة من الميت أو الغائب فلا، ما يطلب من الميت شفاعة، تقول يا فلان اشفع لي، أو غائب لا يستطيع، هذا شرك، لكن الشفاعة من الحي الحاضر القادر لا بأس.
وهذه الشفاعة، يطلب الناس من الأنبياء أن يدعوا الله وأن يسألوا الله وأن يشفع لهم عند الله أن يحاسبهم، لكن يتأخر عنها أولو العزم، كما سبق في حديث الشفاعة، وكما هو مذكور في حديث الشفاعة الطويل، مذكور في الصحيحين وفي غيرهما، وأن الناس يأتون أولًّا آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وأسكنك جنته وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يحيلنا من هذا الموقف، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيعتذر آدم فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني أكلت من الشجرة التي نُهيت عنها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
فيأتون نوحا، فيقولون: يا نوح أنت أول رسول بعثه الله إلى الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا، فيعتذر نوح فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني دعوت على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيذهبون إلى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فيقولون: يا إبراهيم أنت خليل الرحمن، اتخذك الله خليلًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا، فيعتذر إبراهيم، فيقول إبراهيم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات.
هذه الكذبات يجادل بها عن دين الله، هي تورية. إحداها: قال عن زوجته إنها أختي لما مر بملك مصر في ذلك الوقت، تأول أنها أخته في الإسلام لئلا يغار ويأخذها منه، والثانية: لما كسر الأصنام جعل الفأس على الصنم الأكبر وقال لما سألوه من فعل؟ قال: هذا، يعني يريهم، يريهم أنها لا تنفع ولا تضر، والثالثة: لما نظر في النجوم قال: إني سقيم، يريهم ذلك، يعتقدون في النجوم، وأنها لا تنفع ولا تضر.
اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فإنه كليم الرحمن، فيذهبون إلى موسى ويقولون: يا موسى، أنت كليم الرحمن، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، فيعتذر فيقول موسى: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها، عندما قتل القبطي قبل النبوة، هذا قبل النبوة، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى فإنه روح الله وكلمته، فيذهبون إلى عيسى ويقولون: يا عيسى أنت روح الله وكلمته، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا، فيعتذر عيسى ولا يذكر ذنبًا إلا أنه يقول: اتُخِذت أنا وأمي إلهين من دون الله، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد فإنه خاتم النبيين.
فيأتون إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: يا محمد اشفع لنا إلى ربك، فيقول - عليه الصلاة والسلام: أنا لها أنا لها. فيذهب - عليه الصلاة والسلام - فيسجد تحت العرش لا يبدأ بالشفاعة، وهو أوجه الخلق عند الله، ما يستطيع أحد يشفع حتى أفضل الخلق محمد - عليه الصلاة والسلام - ما يبدأ بالشفاعة ما يقدر، ولا أحد يستطيع يشفع إلا بعد الإذن، ما يبدأ بالشفاعة، وإنما يبدأ بالسجود، يذهب فيسجد تحت العرش، فيفتح الله عليه بمحامد يلهمها إياه في ذلك الموقف، فلا يزال يحمد الله ويثني عليه حتى يأتي الإذن من الرب -عز وجل- فيقول الله سبحانه وتعالى: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطى واشفع تشفع، هذا الإذن قال الله سبحانه: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾(3) ما أحد يستطيع يشفع عند الله إلا بإذنه.
أما ملوك الدنيا والرؤساء والأغنياء والوجهاء، كل واحد يشفع بدون إذن، يدفع الباب ويدخل ما عليه، بدون اختياره، وقد يرغمه إرغاما، قد يرغمه لأنه يحاذر، قد يشفع ابنه أو زوجته بشيء هو مكره عليه، لكن الله -سبحانه وتعالى- لا مكره له، "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه". فيشفِّعه الله فيقضي الله بين الخلائق، ويحاسبهم جميعًا، فينصرف الناس فريقين، فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير. هذه الشفاعة الأولى، الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.
الشفاعة الثانية: الشفاعة لأهل الجنة في الإذن لهم في دخولها، أهل الجنة لا يدخلونها إلا بشفاعة، من الذي يشفع؟ نبينا -صلى الله عليه وسلم- يشفع عند ربه فيأذن لهم في دخول الجنة.
الشفاعة الثالثة: الشفاعة في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب، لأنه خف كفره بدفاعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فصار أخف أهل النار عذابًا فيخففه، فيشفع له شفاعة تخفيف فيخرج، فيشفع نبينا -صلى الله عليه وسلم- في عمه أبي طالب فيخرجه الله من غمرات من نار إلى ضحضاح، إلى ضحضاح يغلي منها دماغه، تخفيف، شفاعة تخفيف فقط. هذه الثلاث خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.
أما الشفاعات الأخرى، فيه ثلاث شفاعات أخرى يشاركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، والأفراد والشهداء وغيرهم.
الرابعة: الشفاعة في رفع درجات قوم من أهل الجنة وزيادة ثوابهم، يشفع في قوم من أهل الجنة حتى يرفع، بدل ما يكون في الدرجة الأولى يكون في الدرجة الرابعة، الشفاعة في زيادة درجات قوم من أهل الجنة وزيادة ثوابهم.
الشفاعة الخامسة: الشفاعة في قوم استحقوا دخول النار بمعاصيهم فيشفع فيهم ألا يدخلوها.
الشفاعة السادسة: الشفاعة في قوم دخلوا النار بذنوبهم فيخرجون منها.
هذه ثلاث شفاعات مشتركة، وهذه الشفاعات أنكر منها الخوارج والمعتزلة الشفاعتين الأخريين الخامسة والسادسة، أنكروا خروج الشفاعة فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، ومن دخلها أن لا يخرج منها، لأن الخوارج والمعتزلة يرون أن العاصي كافر، يكفرونه، وأنه يخلد في النار فلا يشفع فيه، فأنكروا النصوص التي فيها إخراج العصاة من النار مع أنها متواترة، ولهذا أنكر عليهم أهل السنة وبدَّعوهم وضللوهم وصاحوا بهم، كيف ينكرون أحاديث متواترة بلغت حد التواتر، ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يشفع أربع شفاعات في أهل النار العصاة، وفي كل مرة يحد الله له حدًا ويخرجهم بالعلامة، يشفع، يقال: له أخرج من كان في قلبه مثقال برة من إيمان، مثقال حبة من إيمان، مثقال ذرة من إيمان، مثقال حبة خردل من إيمان، حتى يقال له في المرة الرابعة أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان.
وذلك أن المعاصي وإن كثرت وعظمت لا تقضي على الإيمان لكن تضعفه، تضعف الإيمان المعاصي حتى لا يبقى منه إلا أدنى مثقال حبة من خردل، لكنها لا تقضي عليه، ما الذي يقضي على الإيمان الكفر، الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر أو الشرك الأكبر أو الظلم الأكبر أو الفسق الأكبر المخرج من الملة، هذا يقضي على الإيمان لا يبقى منه شيء، أما المعاصي تضعف الإيمان تضعفه، ولو كثرت ولو عظمت ما تقضي عليه، لكنه... حتى لا يبقى إلا مثقال حبة من خردل أو أدنى. وذكر بعضهم الشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، يشفع لهم في دخول الجنة.
يقول الإمام رحمه الله: "والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبقوم يخرجون من النار بعدما احترقوا وصاروا فحمًا" من هم هؤلاء؟ العصاة، عصاة الموحدين، عصاة الموحدين يخرجون من النار بعدما احترقوا وصاروا فحمًا، في الحديث: « إنه يؤتى بهم، ضبائر ضبائر، قد امتحشوا وصاروا فحمًا فيذهب بهم إلى نهر على باب الجنة »(4) كما جاء في الأثر كيف شاء الله وكما شاء الله.
فإذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، فإذا تكامل خروج العصاة، ولم يبق أحد، لأنه يبقى بقية+ رب العالمين برحمته، فإذا انتهوا انتهى الموحدون العصاة، ولم يبق في النار أحد، بعد ذلك تطبق النار على الكفرة بجميع أصنافهم، اليهود والنصارى، والوثنيين والشيوعيين والملاحدة، والمنافقون في الدرك الأسفل منها، فلا يخرجون منها أبد الآباد كما قال تعالى: ﴿ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ﴾(6) يعني مطبقة مغلقة، وقال سبحانه: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾(7) قال سبحانه: ﴿ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾(8) وقال سبحانه: ﴿ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴾(9) وقال سبحانه: ﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾(10) نسأل الله السلامة والعافية.
يقول المؤلف: يجب الإيمان بذلك كيف شاء الله وكما شاء الله، إنما هو الإيمان به والتصديق، الإيمان بالنصوص والتصديق لها وعدم الاعتراض عليها. نعم.


(1) سورة الإسراء (سورة رقم: 17)؛ آية رقم:79
(2) سورة الإسراء (سورة رقم: 17)؛ آية رقم:80
(3) سورة البقرة (سورة رقم: 2)؛ آية رقم:255
(4) مسلم : الإيمان (185) , وأحمد (3/11) , والدارمي : الرقاق (2817).
(5) مسلم : الإيمان (184) , والدارمي : الرقاق (2817).
(6) سورة الهمزة (سورة رقم: 104)؛ آية رقم:8
(7) سورة المائدة (سورة رقم: 5)؛ آية رقم:37
(8) سورة البقرة (سورة رقم: 2)؛ آية رقم:167
(9) سورة النبأ (سورة رقم: 78)؛ آية رقم:23
(10) سورة الإسراء (سورة رقم: 17)؛ آية رقم:97

= هنا =

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق