الثلاثاء، 4 نوفمبر 2014

موعظةُ جبريلَ (عليه السَّلام) للنبيِّ(صلى الله عليه وسلم)

موعظةُ جبريلَ (عليه السَّلام) للنبيِّ(صلى الله عليه وسلم) 

 

عن سهل بن سعد (رضي الله عنه) قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم):

«أتاني جبريل فقال يا محمّد: عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ»، ثمّ قال: «يا محمد شَرَفُ المُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ».**

جبريلُ عليه السّلام مَلَكٌ من الملائكة العظام، مُوَكَّلٌ بالوحْي، وبالوحْي تَصْلُحُ حالُ النّاس، ويُجْبَرُ ما يصيبهم من وَهَنٍ وفسادٍ في دينهم ودنياهم.



أتى جبريلُ نبيَّنَا محمّدًا (صلى الله عليه وسلم)، وجعل يخاطبه بصفته عبدًا من عبادِ الله، ولم يخاطبه بوصف النّبوَّةِ أو الرّسالة، لذا كان هذا الخطابُ الّذي يخاطبُ به الآن جبريلُ  نبيَّنَا (صلى الله عليه وسلم): خطابًا صالحًا  لكُلِّ عبدٍ من عبادِ الله، ولكلِّ حَيٍّ من الناس ممَّنْ يَحْيَوْنَ في هذه الدّنيا، فَارْعِ لهذه الموعظة سمعَكَ -يا عبد الله!-، فإنها وإنْ كانت متوجِّهَةً لنبيِّكَ بدايةً، فإنها لك أيضًا! ولغيرك ممّن يشاركون النّبيَّ (صلى الله عليه وسلم) في الدّخول تحت وصف العبودية لله.

 نعم! كلماتٌ معدودات، وعظ بهنَّ جبريلُ محمّدًا (صلى الله عليه وسلم)، وهي تذكرةٌ وموعظةٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ (صلى الله عليه وسلم). إذا كان النّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُوعَظُ! ويُذَكَّرُ!، فما بالُ غيرِهِ من النّاس، إنَّهُ أحْوَجُ ما يكون إلى الموعظة والتّذكرة، لا غنى له عنهما.



1 ـ بَدَأَ جِبْرِيلُ أَوَّلاً: بالتَّذْكِيرِ بِالمَوْتِ: «لأنّه أفْظَعُ مَا يَلْقَاهُ الإنسانُ وَأَبْشَعُهُ»[1]؛ فقال: «عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ»؛ أي: آيلٌ إلى  الموت عمَّا قريب، فهذا الموت آتيك-يا عبد الله!-، ولا بُدَّ أن ينزل بك، ولَنْ يُخْطِئَكَ، وإنْ كُنْتَ تَرَاهُ بَعِيدًا، فَإِنَّهُ عِنْدَ اللهِ قريب، وكلُّ آتٍ آتٍ، وكلُّ آتٍ قريب.

ومن ثمار تذكر الموت: عدم تعلُّق القلب بالدّنيا والتّلهُّف وراء ملذّاتها، ومن ثمار تذكّر الموت كذلك: تقصير الأمل في هذه الدّنيا، فأهلُ الآخرة ليس لهم طولُ أملٍ فيها، إنّما يُؤَمِّلُونَ الدّار الباقية، قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت:64] أي: هي الحياة الكاملة الدّائمة.

«عش ما شئت فإنّك ميّت»؛ المعنى: «فليتأهّب من غايتُه الموت بالاستعداد لما بعده»[2].



2 ـ ثمّ قال له: «وأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ»؛ «أَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ» مِنَ الخَلْقِ «فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ» بموتٍ أو غيره. فإيَّاكَ -يا عبدَ الله- أنْ تَشْغَلَ قَلْبَكَ بمتاعٍ من أمتعة الدّنيا الزّائلة؛ مِنْ زوجةٍ أو ولدٍ أو مالٍ  أو غير ذلك من المحْبُوبَات، فإنَّهَا إمَّا أن تزول عنك أو أن تزول عنها أنتَ! فَاشْغَلْ-إذَنْ- قَلْبَكَ بِحُبِّ مَنْ لا يُفارقك ولا تُفارقه «وهو ذكرُ الله[والعمل الصّالح الّذي يحبّه الله ويقرب منه تعالى] فإنَّ ذلك يصحبك في القبر فلا يفارقك»([3]).

هذا نبِيُّنا (صلى الله عليه وسلم) كانت قُرَّةُ عينه في الصّلاة، الصّلاة! وما أدراك ما الصّلاة! فيها يُنَاجِي العبدُ رَبَّهُ تبارك وتعالى، ويُقْبِلُ عليه بكُلِّيَّتِهِ، ويقفُ فيها خاشعًا بقلبه وخاشعًا بجوارحه، مُسْتَكِينًا لِمَوْلاَهُ، وخالِقِهِ، مُعَظِّمًا له، يعيشُ في هذه الصّلاة لحظات الصَّفاء والأُنْسِ بالله، والرَّاحة  وهو يُنَاجِيهِ سُبْحَانهُ.

وهذه الصِّدِّيقَةُ حَبِيبَةُ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)! كان عندها ذاتَ ليلةٍ في بيتها، وهو في لِحَافِهَا، فقام عنها، وقال لها(صلى الله عليه وسلم): «يا عائشةُ! ذَرِينِي[خَلِّينِي واتْرُكِينِي] أَتَعَبَّدُ لِرَبِّي»، قالت عائشةُ: «واللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مَا يَسُرُّكَ»، «فقام فتطهَّرَ ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتَّى بَلَّ حِجْرَهُ ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بَلََََّ الأرض...». ...﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ[الزمر:9].

ويحتاجُ العبدُ في هذا الموقف إلى مجاهدةٍ عظيمة؛ فإنَّ الشّيطانَ والنَّفْسَ والهوى يجتمعون عليه؛ يُذَكِّرُونَهُ الدُّنْيَا في صلاته، ويُحْضِرُونَهَا لَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وهو قائمٌ في صلاته؛ لِيَحْرِمُوهُ أَجْرَهَا، ويَحْرِمُوهُ وَيَسْلِبُوهُ أَعْظَمَ مَا فِيهَا وهو لَذَّةُ المُنَاجَاةِ!.. ففَارِقْ -يا عبد الله!- كُلَّ مَحْبُوبٍ ومَرْغُوبٍ من أمر الدّنيا وأنت بين يدي ربك؛ تَحْظَ بالنَّعيم، وتَنَال التكريم، مِنْ رَبٍّ جليل، ومَوْلًى كريم، قال (صلى الله عليه وسلم): «أفضلُ الجهاد أن يجاهِدَ الرّجلُ نَفْسَهُ وهواهُ»[4].



وعَلَيْكَ -يا عبد الله!- أن تتذَكَّرَ الموت في صلاتك، امتثالاً لوصِيَّةِ نبيِّكَ (صلى الله عليه وسلم)؛ حيثُ قال  -كما في حديث أنس-: «اذْكُرِ الموت في صلاتك، فإنَّ الرَّجُلَ إذا ذكر الموت في صلاته لَحَرِيٌّ أن يُحْسِنَ صلاتَه، وَصَلِّ صلاةَ رَجُلٍ لا يَظُنُّ أَنَّهُ يُصَلِّي صلاةً غيرَهَا.. »[5].



3 ـ ثمّ قال له: «واعْمَلْ مَا شِئْتَ فإنَّكَ مَجْزِيٌّ به»، وفي روايةٍ: «فإنَّكَ مُلاَقِيهِ». «اعْمَلْ مَا شِئْتَ» مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فإنَّ آخرَكَ المَوْتُ، وبعد الموت الحساب والجزاء، «فإنّك مَجْزِيٌّ به»: أي مُكَافَأٌ عليه، مَقْضِيٌّ عليك بما يقتضيه عملُكَ، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8].

 وفي هذا تقريعٌ وتهديدٌ من قبيلِ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ...[فصلت:40] أيْ: يُجَازِيكُمْ بِهِ فإنْ كانَ العملُ حَسَنًا سَرَّكَ جَزَاؤُهُ أو سيِّئًا سَاءَكَ لِقَاؤُهُ [6].



الخطبة الثّانية:

لمَّا كان العُمْرُ قليلاً بالإضافة إلى حياة الآخرة، ولمَّا كان العبدُ خُلِقَ لِيُقِيمَ ذِكْرَ الله، ويَعْمُرَ هذه الدنيا بطاعةِ رَبِّهِ وعبادةِ خالقِهِ -جلَّ وعلا-، بَيَّنَ جبريلُ لِنَبِيِّنَا(صلى الله عليه وسلم) أعظمَ ما ينفع العبدَ، وما يُنَجِّيهِ مِنْ هَوْلِ المُطَّلَعِ؛ الّذي سَيَقْدُمُ عَلَيْهِ العباد.



4 ـ فقال: «يا محمّدُ! شَرَفُ المؤْمِنِ  قِيَامُهُ بِالَّليْلِ»، أي: عُلاَهُ ورِفْعَتُهُ: إحياؤُهُ الليلَ بدوام التَّهَجُّدِ فيه والذكر والتلاوة. فهذا مِنْ أَعْظَمِ العمل وأَشْرَفِهِ؛ الّذي يلقى به العبدُ ربَّهُ -جلَّ وعلا-. فالصّلاةُ خيرُ عملٍ -بعد الشّهادتين- يلقى بِهِ العبادُ ربَّهُمْ؛ قال(صلى الله عليه وسلم): «الصّلاةُ خيرُ موضوع»، وقال(صلى الله عليه وسلم): «واعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاة»؛ «فإنّ الصّلاة جامعةٌ لِكُلِّ عِبَادَةٍ مِنْ قراءة وتسبيح وتكبير وتهليل»[7]،  وقال (صلى الله عليه وسلم): «أفضلُ الصّلاة بعد المكتوبة الصّلاةُ في جوف اللّيل».

فهذا العبدُ قَانِتٌ لربِّه  -جلَّ وعلا- ليلاً ونهارًا، فَبَعْدَ أَنْ حَافَظَ على  الصّلوات الخمس المفروضات، لم يَرْضَ لنفسه أن يُعَطِّلَ هذا العُمْرَ القليل؛ عن الطّاعة والعبادة، لم يَرْضَ أن يُفْنِيَ هذه الحياة القصيرة في غَيْرِ لَذَّةِ مُنَاجَاةٍ ولحظةِ مُصَافَاةٍ مع الرَّبِّ -جلَّ وعلا-، هَانَتْ عَلَيْهِ الدنيا، فَارْتَفَعَ عَنْهَا وهي الحقيرة الوضيعة، وارْتَفَعَ بِنَفْسِهِ وَارْتَقَى بِرُوحِهِ؛ أَنْ يَسْتَغْرِقَهُمَا في النَّوم واللَّهو.



فهذا على الحقيقة هو الّذي حَازَ الشَّرَفَ وأَدْرَكَ المكانة العالية الرفيعة.



5 ـ ثمّ قال له: «وعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»، أي: «قُوَّتُهُ وَعَظَمَتُهُ وَغَلَبَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ..اكتفاؤه بما قُسِمَ له واستغناؤه عمَّا في أيدي النّاس»[8]، فهذا هو العزيز، وهو المفْلِحُ؛ أي: الفائز في الآخرة، قال(صلى الله عليه وسلم): «أفلح من هُدِيَ إلى الإسلام، وكان عَيْشُهُ كَفَافًا[أي: ما يَكُفُّ مِنَ الحاجات ويدفع الضّرورات[9]]وقَنَعَ بِهِ»، وفي بعض الأحاديث: «وقنَّعَهُ الله بما آتاه»، «أي: رضي باليسير من ذلك»[10]. ولعِزَّةِ هَذَا العَبْدِ فِي النَّاسِ، هُوَ مَحْبُوبٌ عِنْدَهُمْ، قال (صلى الله عليه وسلم): «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ».



والحاصلُ: -عباد الله!- أنَّ هذه الموعظة التي وَعَظَ بِهَا جبريلُ نَبِيَّنَا (صلى الله عليه وسلم) اشتملت على أمور:

ـ  التّنبيه على قِصَرِ الأمل.

ـ والتّذكير بالموت.

ـ وعدم الاغترار بالاجتماع بالأهل والأحباب والأولاد.

ـ والّتذكير باغتنام العمر في العبادة.

ـ وفيها الحثُّ على التّهجُّدِ.

وهي على وَجَازَتِهَا قَدْ شَمِلَتْ خَيْرَيْ الدنيا والآخرة، وتكفَّلَتْ بسعادة الدّارين.





[1]«فيض القدير»(1/133).

[2]«فيض القدير»(4/655).

[3]«فيض القدير».

[4]«صحيح الجامع»(رقم:1979).

[5] - «الصّحيحة»(رقم:1421)، و(رقم:2839).

[6]«فيض القدير».

[7]«فيض القدير».

[8]«فيض القدير»(1/134).

[9]«فيض القدير»(4/665).
[10]«فيض القدير»(2/71).

 مصابيح العلم 

**"أتاني جبريلُ ، فقال : يا محمدُ عِشْ ما شئتَ فإنك ميِّتٌ ، وأحبِبْ ما شئتَ ، فإنك مُفارِقُه ، واعملْ ما شئتَ فإنك مَجزِيٌّ به ، واعلمْ أنَّ شرَفَ المؤمنِ قيامُه بالَّليلِ ، وعِزَّه استغناؤه عن الناسِ"

الراوي: سهل بن سعد الساعدي و جابر بن عبدالله و علي بن أبي طالب المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: 831
خلاصة حكم المحدث: حسن بجموع الطرق

الدرر السنية 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق