الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

إِيثَارُ الْأَعْلَى

إِيثَارُ الْأَعْلَى 
الْعَبْدَ لَا يَتْرُكُ مَا يُحِبُّهُ وَيَهْوَاهُ، وَلَكِنْ يَتْرُكُ أَضْعَفَهُمَا مَحَبَّةً لِأَقْوَاهُمَا مَحَبَّةً، كَمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَكْرَهُهُ؛ لِحُصُولِ مَا مَحَبَّتُهُ أَقْوَى عِنْدَهُ مِنْ كَرَاهَةِ مَا يَفْعَلُهُ، أَوْ لِخَلَاصِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْعَقْلِ إِيثَارُ أَعْلَى الْمَحْبُوبَيْنِ عَلَى أَدْنَاهُمَا، وَأَيْسَرِ الْمَكْرُوهَيْنِ عَلَى أَقْوَاهُمَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ كَمَالِ قُوَّةِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ.
وَلَا يَتِمُّ لَهُ هَذَا إِلَّا بِأَمْرَيْنِ: قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ، وَشَجَاعَةِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ ذَلِكَ وَالْعَمَلَ بِخِلَافِهِ يَكُونُ إِمَّا لِضَعْفِ الْإِدْرَاكِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَرَاتِبَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، إِمَّا لِضَعْفٍ فِي النَّفْسِ، وَعَجْزٍ فِي الْقَلْبِ، بِحَيْثُ لَا يُطَاوِعُهُ عَلَى إِيثَارِ الْأَصْلَحِ؛ لِرَفْعِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ الْأَصْلَحُ، فَإِذَا صَحَّ إِدْرَاكُهُ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَتَشَجَّعَ قَلْبُهُ عَلَى إِيثَارِ الْمَحْبُوبِ الْأَعْلَى وَالْمَكْرُوهِ الْأَدْنَى فَقَدْ وُفِّقَ لِأَسْبَابِ السَّعَادَةِ.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ شَهْوَتِهِ أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ عَقْلِهِ وَإِيمَانِهِ، فَيَقْهَرُ الْغَالِبُ الضَّعِيفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ إِيمَانِهِ وَعَقْلِهِ أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ شَهْوَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَرْضَى يَحْمِيهِ الطَّبِيبُ عَمَّا يَضُرُّهُ، فَتَأْبَى عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَشَهْوَتُهُ إِلَّا تَنَاوُلَهُ، وَيُقَدِّمُ شَهْوَتَهُ عَلَى عَقْلِهِ، وَتُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ: عَدِيمَ الْمُرُوءَةِ، فَهَكَذَا أَكْثَرُ مَرْضَى الْقُلُوبِ يُؤْثِرُونَ مَا يَزِيدُ مَرَضَهُمْ، لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ لَهُ.
فَأَصْلُ الشَّرِّ مِنْ ضَعْفِ الْإِدْرَاكِ وَضَعْفِ النَّفْسِ وَدَنَاءَتِهَا، وَأَصْلُ الْخَيْرِ مِنْ كَمَالِ الْإِدْرَاكِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَشَرَفِهَا وَشَجَاعَتِهَا.
فَالْحُبُّ وَالْإِرَادَةُ أَصْلُ كُلِّ فِعْلٍ وَمَبْدَؤُهُ، وَالْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ أَصْلُ كُلِّ تَرْكٍ وَمَبْدَؤُهُ، وَهَاتَانِ الْقُوَّتَانِ فِي الْقَلْبِ، أَصْلُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَشَقَاوَتِهِ.
وَوُجُودُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوُجُودِ سَبَبِهِ مِنَ الْحُبِّ وَالْإِرَادَةِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الْفِعْلِ: فَتَارَةً يَكُونُ لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ وَسَبَبِهِ، وَتَارَةً يَكُونُ لِوُجُودِ الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ الْمَانِعَةِ مِنْهُ، وَهَذَا مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْكَفَّ، وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَبِهَذَا يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْكِ وَهَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ عَدَمِيٌّ؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قِسْمَانِ: فَالتَّرْكُ الْمُضَافُ إِلَى عَدَمِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي عَدَمِيٌّ، وَالْمُضَافُ إِلَى السَّبَبِ الْمَانِعِ مِنَ الْفِعْلِ وُجُودِيٌّ. 


إِيثَارُ الْأَنْفَعِ:
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ الِاخْتِيَارِيَّيْنِ إِنَّمَا يُؤْثِرُهُ الْحَيُّ لِمَا فِيهِ مِنْحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَلْتَذُّ بِحُصُولِهَا،أَوْ زَوَالِ الْأَلَمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ الشِّفَاءُ بِزَوَالِهِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: شَفَى صَدْرَهُ، وَشَفَى قَلْبَهُ، وَقَالَ:
هِيَ الشِّفَاءُ لِدَائِي لَوْ ظَفِرْتُ بِهَا ** وَلَيْسَ مِنْهَا شِفَاءُ الدَّاءِ مَبْذُولُ

وَهَذَا مَطْلُوبٌ يُؤْثِرُهُ الْعَاقِلُ بَلِ الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ، وَلَكِنْ يَغْلَطُ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ غَلَطًا قَبِيحًا، فَيَقْصِدُ حُصُولَ اللَّذَّةِ بِمَا يُعَقِّبُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الْأَلَمِ، فَيُؤْلِمُ نَفْسَهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ يُحَصِّلُ لَذَّتَهَا، وَيَشْفِي قَلْبَهُ بِمَا يُعَقِّبُ عَلَيْهِ غَايَةَ الْمَرَضِ، وَهَذَا شَأْنُ مَنْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى الْعَاجِلِ وَلَمْ يُلَاحِظِ الْعَوَاقِبَ، وَخَاصَّةً الْعَقْلُ النَّاظِرُ فِي الْعَوَاقِبِ، فَأَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ آثَرَ لَذَّتَهُ وَرَاحَتَهُ فِي الْآجِلَةِ الدَّائِمَةِ عَلَى الْعَاجِلَةِ الْمُنْقَضِيَةِ الزَّائِلَةِ، وَأَسْفَهُ الْخَلْقِ مَنْ بَاعَ نَعِيمَ الْأَبَدِ وَطَيِّبَ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَاللَّذَّةَ الْعُظْمَى الَّتِي لَا تَنْغِيصَ فِيهَا وَلَا نَقْصَ بِوَجْهٍ مَا، بِلَذَّةٍ مُنْقَضِيَةٍ مَشُوبَةٍ بِالْآلَامِ وَالْمَخَاوِفِ، وَهِيَ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ وَشِيكَةُ الِانْقِضَاءِ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فَكَّرْتُ فِيمَا يَسْعَى فِيهِ الْعُقَلَاءُ، فَرَأَيْتُ سَعْيَهُمْ كُلِّهِمْ فِي مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ، رَأَيْتَهُمْ جَمِيعَهُمْ إِنَّمَا يَسْعَوْنَ فِي دَفْعِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ عَنْ نُفُوسِهِمْ، فَهَذَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَهَذَا بِالتِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ، وَهَذَا بِالنِّكَاحِ، وَهَذَا بِسَمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ، وَهَذَا بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، فَقُلْتُ: هَذَا الْمَطْلُوبُ مَطْلُوبُ الْعُقَلَاءِ، وَلَكِنَّ الطُّرُقَ كُلَّهَا غَيْرُ مُوَصِّلَةٍ إِلَيْهِ، بَلْ لَعَلَّ أَكْثَرَهَا إِنَّمَا يُوَصِّلُ إِلَى ضِدِّهِ، وَلَمْ أَرَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الطُّرُقِ طَرِيقًا مُوَصِّلَةً إِلَيْهِ إِلَّا الْإِقْبَالَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَمُعَامَلَتَهُ وَحْدَهُ، وَإِيثَارَ مَرْضَاتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
فَإِنَّ سَالِكَ هَذَا الطَّرِيقِ إِنْ فَاتَهُ حَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا فَقَدْ ظَفِرَ بِالْحَظِّ الْعَالِي الَّذِي لَا فَوْتَ مَعَهُ، وَإِنْ حَصَلَ لِلْعَبْدِ حَصَلَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنْ فَاتَهُ فَاتَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنْ ظَفِرَ بِحَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا نَالَهُ عَلَى أَهْنَأِ الْوُجُوهِ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْفَعُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ، وَلَا أَوْصَلُ مِنْهَا إِلَى لَذَّتِهِ وَبَهْجَتِهِ وَسَعَادَتِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.


أَقْسَامُ الْمَحْبُوبِ:
وَالْمَحْبُوبُ قِسْمَانِ: مَحْبُوبٌ لِنَفْسِهِ، وَمَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ، وَالْمَحْبُوبُ لِغَيْرِهِ، لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمَحْبُوبِ لِنَفْسِهِ، دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ الْمُحَالِ، وَكُلُّ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ الْحَقِّ فَهُوَ مَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُحَبُّ لِذَاتِهِ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِمَّا يُحَبُّ فَإِنَّمَا مَحَبَّتُهُ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كَمَحَبَّةِ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، فَإِنَّهَا تَبَعٌ لِمَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّتِهِ، فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ تُوجِبُ مَحَبَّةَ مَا يُحِبُّهُ، وَهَذَا مَوْضِعٌ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ فُرْقَانٍ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ النَّافِعَةِ لِغَيْرِهِ، وَالَّتِي لَا تَنْفَعُ بَلْ قَدْ تَضُرُّ.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُحَبُّ لِذَاتِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ كَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَإِلَهِيَّتُهُ وَرُبُوبِيَّتُهُ وَغِنَاهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَمَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُبْغَضُ وَيُكْرَهُ لِمُنَافَاتِهِ مَحَابِّهُ وَمُضَادَّتِهِ لَهَا، وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ بِحَسَبِ قُوَّةِ هَذِهِ الْمُنَافَاةِ وَضَعْفِهَا، فَمَا كَانَ أَشَدَّ مُنَافَاةً لِمَحَابِّهِ، كَانَ أَشَدَّ كَرَاهَةً مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَوْصَافِ وَالْأَفْعَالِ وَالْإِرَادَاتِ وَغَيْرِهَا، فَهَذَا مِيزَانٌ عَادِلٌ تُوزَنُ بِهِ مُوَافَقَةُ الرَّبِّ وَمُخَالَفَتُهُ وَمُوَالَاتُهُ وَمُعَادَاتُهُ، فَإِذَا رَأَيْنَا شَخْصًا يُحِبُّ مَا يَكْرَهُهُ الرَّبُّ تَعَالَى وَيَكْرَهُ مَا يُحِبُّهُ، عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ مِنْ مُعَادَاتِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَيْنَا الشَّخْصَ يُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ، وَكُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَحَبَّ إِلَى الرَّبِّ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَآثَرَهُ عِنْدَهُ، وَكُلَّمَا كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ وَأَبْعَدَ مِنْهُ، عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ مِنْ مُوَالَاةِ الرَّبِّ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
فَتَمَسَّكْ بِهَذَا الْأَصْلِ فِي نَفْسِكَ وَفِي غَيْرِكَ، فَالْوِلَايَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ فِي مَحَابِّهِ وَمَسَاخِطِهِ، وَلَيْسَتْ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا تَمَزُّقٍ وَلَا رِيَاضَةٍ.
وَالْمَحْبُوبُ لِغَيْرِهِ قِسْمَانِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: مَا يَلْتَذُّ الْمُحِبُّ بِإِدْرَاكِهِ وَحُصُولِهِ.
وَالثَّانِي: مَا يَتَأَلَّمُ بِهِ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ، كَشُرْبِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 216].
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقِتَالَ مَكْرُوهٌ لَهُمْ مَعَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ لِإِفْضَائِهِ إِلَى أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ وَأَنْفَعِهِ، وَالنُّفُوسُ تَحْتَ الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، ذَلِكَ شَرٌّ لَهَا لِإِفْضَائِهِ إِلَى فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، فَالْعَاقِلُ لَا يَنْظُرُ إِلَى لَذَّةِ الْمَحْبُوبِ الْعَاجِلِ فَيُؤْثِرُهَا، وَأَلَمِ الْمَكْرُوهِ الْعَاجِلِ فَيَرْغَبُ عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ شَرًّا لَهُ، بَلْ قَدْ يَجْلِبُ عَلَيْهِ غَايَةَ الْأَلَمِ وَيُفَوِّتُهُ أَعْظَمَ اللَّذَّةِ، بَلْ عُقَلَاءُ الدُّنْيَا يَتَحَمَّلُونَ الْمَشَاقَّ الْمَكْرُوهَةَ لِمَا يُعْقِبُهُمْ مِنَ اللَّذَّةِ بَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً.
فَالْأُمُورُ أَرْبَعَةٌ: مَكْرُوهٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ، وَمَكْرُوهٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَحْبُوبٍ، وَمَحْبُوبٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَحْبُوبٍ، وَمَحْبُوبٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ، فَالْمَحْبُوبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْمَحْبُوبِ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ دَاعِيَ الْفِعْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَالْمَكْرُوهُ الْمُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ، قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ دَاعِي التَّرْكِ مِنْ وَجْهَيْنِ.
بَقِيَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ يَتَجَاذَبُهُمَا الدَّاعِيَانِ- وَهُمَا مُعْتَرَكُ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ- فَالنَّفْسُ تُؤْثِرُ أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا مِنْهَا، وَهُوَ الْعَاجِلُ، وَالْعَقْلُ وَالْإِيمَانُ يُؤْثِرُ أَنْفَعَهُمَا وَأَبْقَاهُمَا، وَالْقَلْبُ بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ، وَهُوَ إِلَى هَذَا مَرَّةً، وَإِلَى هَذَا مَرَّةً، وَهَاهُنَا مَحَلُّ الِابْتِلَاءِ شَرْعًا وَقَدَرًا، فَدَاعِي الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ يُنَادِي كُلَّ وَقْتٍ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى، وَفِي الْمَمَاتِ يَحْمَدُ الْعَبْدُ التُّقَى، فَإِنِ اشْتَدَّ ظَلَامُ لَيْلِ الْمَحَبَّةِ، وَتَحَكَّمَ سُلْطَانُ الشَّهْوَةِ وَالْإِرَادَةِ، يَقُولُ: يَا نَفْسُ اصْبِرِي فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ.
الْحُبُّ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ:
وَإِذَا كَانَالْحُبُّ أَصْلَ كُلِّ عَمَلٍمِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَأَصْلُ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا أَصْلُ الْأَقْوَالِ الدِّينِيَّةِ تَصْدِيقُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكُلُّ إِرَادَةٍ تَمْنَعُ كَمَالَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُزَاحِمُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ أَوْ شُبْهَةٍ تَمْنَعُ كَمَالَ التَّصْدِيقِ، فَهِيَ مُعَارِضَةٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ أَوْ مُضْعِفَةٌ لَهُ، فَإِنْ قَوِيَتْ حَتَّى عَارَضَتْ أَصْلَ الْحُبِّ وَالتَّصْدِيقِ كَانَتْ كُفْرًا أَوْ شِرْكًا أَكْبَرَ، وَإِنْ لَمْ تُعَارِضْهُ قَدَحَتْ فِي كَمَالِهِ، وَأَثَّرَتْ فِيهِ ضَعْفًا وَفُتُورًا فِي الْعَزِيمَةِ وَالطَّلَبِ، وَهِيَ تَحْجُبُ الْوَاصِلَ، وَتَقْطَعُ الطَّالِبَ، وَتُنَكِّسُ الرَّاغِبَ، فَلَا تَصِحُّ الْمُوَالَاةُ إِلَّا بِالْمُعَادَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ الْمُحِبِّينَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 75- 77].
فَلَمْ يَصِحَّ لِخَلِيلِ اللَّهِ هَذِهِ الْمُوَالَاةُ وَالْخُلَّةُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْمُعَادَاةِ، فَإِنَّهُ لَا وَلَاءَ إِلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ: 4].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينَ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 26- 28].
أَيْ جَعَلَ هَذِهِ الْمُوَالَاةَ لِلَّهِ، وَالْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَتَوَارَثُهَا الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهِيَ كَلِمَةُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ الَّتِي وَرَّثَهَا إِمَامُ الْحُنَفَاءِ لِأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق