السبت، 22 مارس 2014

مقدمة لدورة جواهر القواعد المثلى



قواعد وأصول في منهج تلقي العقيدة السلفية 

أولًا: مصدر العقيدة هو الكتاب والسنة الصحيحة وإجماع السلف الصالح:
هذه المصادر هي أساس دين الإسلام، ويرتكز على ثلاثة أصول وهي:
1 ـ تعظيم النصوص الشرعية والانقياد لها.
2 ـ الاعتماد على الأحاديث الصحيحة.
3 ـ صحة فهم النصوص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فَمَنْ بَنَى الْكَلَامَ فِي الْعِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ السَّابِقِينَ فَقَدْ أَصَابَ طَرِيقَ النُّبُوَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ بَنَى الْإِرَادَةَ وَالْعِبَادَةَ وَالْعَمَلَ وَالسَّمَاعَ الْمُتَعَلِّقَ بِأُصُولِ الْأَعْمَالِ وَفُرُوعِهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَالْهَدْيِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ فَقَدْ أَصَابَ طَرِيقَ النُّبُوَّةِ وَهَذِهِ طَرِيقُ أَئِمَّةِ الْهُدَى ([1]).

([1])مجموع الفتاوى (2/278).

ثانيًا: كل ما صح من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجب قبوله والعمل به، وإن كان آحادًا في العقائد والأحكام وغيرها:
لأن كل ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو حق وصدق ولا ريب فيه، قال تعالى: "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" النجم: 2-3.
وقد أمر الله سبحانه بطاعة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى: "وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" الحشر: 7.

ثالثًا: المرجع في فهم الكتاب والسنة، هو النصوص المبينة لها بفهم السلف الصالح:
قال عمر بن الخطاب في رسالته لأبي موسى الأشعري: ثُمَّ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أَدْلَى إلَيْك مِمَّا وَرَدَ عَلَيْك مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ، ثُمَّ قَايِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاعْرَفْ الْأَمْثَالَ، ثُمَّ اعْمِدْ فِيمَا تَرَى إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ ([2]).

 ([2]) جزء من رسالة عمر رضي الله عنه، لأبي موسى الأشعري، أخرجها الدارقطني في السنن :4381، وابن أبي الدنيا في القضاء (80)، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/492).
قال ابن تيمية في منهاج السنة (6/71) (ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء، وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه، وأصول الفقه).
وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/196) (وساقه ابن حزم من طريقين، وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيها مما يقوي أصل الرسالة، لا سيما في بعض طرقه أن راويه اخرج الرسالة مكتوبة).
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 1/76) (وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه).
وللشيخ مشهور حسن حفظه الله بحث قيم ومفيد في تخريج هذه الرسالة في تحقيقه لإعلام الموقعين 2/ 159 – 163.


قال ابن القيم: صِحَّةُ الْفَهْمِ وَحُسْنُ الْقَصْدِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، بَلْ مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ عَطَاءً بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ وَلَا أَجَلُّ مِنْهُمَا، بَلْ هُمَا سَاقَا الْإِسْلَامِ، وَقِيَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَبِهِمَا يَأْمَنُ الْعَبْدُ طَرِيقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ فَسَدَ قَصْدُهُمْ وَطَرِيقُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ فَسَدَتْ فُهُومُهُمْ، وَيَصِيرُ مِنْ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ حَسُنَتْ أَفْهَامُهُمْ وَقُصُودُهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَصِحَّةُ الْفَهْمِ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَيَمُدُّهُ حُسْنَ الْقَصْدِ، وَتَحَرِّي الْحَقَّ، وَتَقْوَى الرَّبِّ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَتَقْطَعُ مَادَّتُهُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَإِيثَارَ الدُّنْيَا، وَطَلَبَ مَحْمَدَةِ الْخَلْقِ، وَتَرْكَ التَّقْوَى ([3]). 

([3]) إعلام الموقعين (1/113).
ومن الأصول التي يجب الاعتماد عليها في فهم النصوص فهم الصحابة -رضي الله عنهم- ففيهم تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- و نزل الكتاب وهم معه، فهم أعلم الناس بمراد الله وبمراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة بعد ما كثرت البدع وقلَّ العلم وفسدت الأفهام وهجرت السنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ مَا أَرَادَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ يَعْرِفُوا لُغَةَ الْقُرْآنِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ، وَمَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَانِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ لَمَّا خَاطَبَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَرَّفَهُمْ مَا أَرَادَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَكَانَتْ مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ أَكْمَلَ مِنْ حِفْظِهِمْ لِحُرُوفِهِ وَقَدْ بَلَّغُوا تِلْكَ الْمَعَانِيَ إلَى التَّابِعِينَ أَعْظَمَ مِمَّا بَلَّغُوا حُرُوفَهُ ([4]).

 ([4]) مجموع الفتاوى (4/12).
رابعًا: أصول الدين كلها بينها النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس لأحد أن يحدث شيئًا زاعمًا أنه من الدين
لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما مات إلا بعد أن أتم الله به الدين، قال تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" المائدة: 3.

العقل الصريح موافق للنقل الصحيح:
العقل خلق الله والدين أمره، فلا يمكن أن يتعارض الخلق والأمر؛ لأن كلاهما من الله -عز وجل- وكلاهما على الكمال والحق .

*العقل نعمة عظيمة امتن الله بها على بني آدم وميزهم بها على سائر المخلوقات غير أن هذا التكريم لا يتحقق إلا إذا كان العقل مهتديا بوحي الله محكوما بشرع الله وبذلك ينجو صاحبه من الضلال ويهتدي إلى الحق كما قال تعالى "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" آل عمران:101.
أما إذا كان العقل مقدما على وحي الله حاكما على شرع الله فقد ضل صاحبه سواء السبيل كما قال تعالى "فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" القصص:50. 
هنا

 - فاعلم أن للعقل منزلة عظيمة في دين الله، فقد جعله الله أداة للفهم ومناطًا للتكليف وأمر بحفظه ورعايته وحرَّم كل ما يفسده ويؤثر عليه، مثل شرب الخمر، وحثَّ الناس على التدبر والتفكر في آيات الله، قال تعالى: "أَفَلَا تَعْقِلُونَ " "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ" "أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ" "أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ". وقد ضل أناس وانحرفوا عن الصراط المستقيم في مسألة استخدام العقل، ما بين مفرطين في إهمال العقل وهم الصوفية الحُهال الذين ألغوا عقولهم، فكلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف وعندهم أعظم.
وبين المقدسين للعقل وهم المتكلمون والجهمية ومن سار على نهجهم، فهم جعلوا العقل ندًا للشرع وحكمًا عليه، ومقدمًا عليه.

خامسًا: يحب الالتزام بالألفاظ الشرعية في العقيدة وتجنب الألفاظ البدعية التي أحدثها الناس:

ذلك حتى لا نقع في الألفاظ المحدثة التي تشتمل على معانٍ باطلة، فقد قال الله تعالى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ" البقرة: 104
.
سادسًا: أن العصمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- والأمة في مجموعها معصومة من الاجتماع على ضلالة؛

لحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يجمع الله أمتي على ضلالة" ([7]).

([7]) حسن لغيره: أبو داود (1510)، الترمذي (2167)، ابن ماجه (3950)، الحاكم (1/115)، اللفظ له.
حسنه بمجموع طرقه الألباني في الصحيحة (1331)، وكذا شيخنا العزازي في تحقيقه للفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/408 – 409)

"إِنَّ اللهَ تعالى لا يجمَعُ أمتي على ضلالَةٍ ، و يدُ اللهِ على الجماعَةِ"

الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 1848- خلاصة حكم المحدث: صحيح- الدرر السنية 

أما آحاد الأمة فلا عصمة لأحد منهم، وما اختلف فيه الأئمة وغيرهم فمرجعه إلى الله ورسوله، وما قام عليه الدليل، مع الاعتذار للمخطئ من مجتهدي الأمة.

ـ اعلم أن للعلماء زلات، وأنهم ليسوا مُحِقِّين على طول الخط، فإذا حكم العلماء الراسخون في العلم، بأن هناك ذلة لعالم ما فالواجب علينا رد هذه الزلة وعدم العمل بها ونعتذر للعالم؛ لأنه اجتهد فأخطأ.

ـ اعلم أن لكل مجتهد نصيب وليس كل مجتهد مصيب([1])، لحديث عمرو بن العاص : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" ([2]).

([1]) انظر للفائدة: كتاب تنبيه الهُمام فيمن لهم أجران (39 – 41) للمؤلف.

([2]) متفق عليه: البخاري (7352)، مسلم (1716).


"إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجرانِ ، وإذا حكم فاجتهدَ ثم أخطأَ فله أجرٌ"

الراوي: عمرو بن العاص المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7352- خلاصة حكم المحدث: صحيح-الدرر السنية


أصل المعلومة مستقى من الألوكة

إن من أعظم مباحث العقيدة التي عني بها علماء سلف الأمة، والمتعلقة بذات الله جل في علاه وهو مبحث الأسماء والصفات، وهو من أوسع أبواب العقيدة والتي يجب على المسلم أن يحتوي عقله على الاعتقاد الصحيح الذي لا يشوبه أي تشويش أو بدع ضالة، ومن باب الحرص على تسهيل فهم المعتقد السليم للأسماء والصفات قام علماء الأمة الأفذاذ بإنشاء علم عُرف بقواعد الأسماء والصفات.
هنا 


قال الشيخ السعدي-رحمه الله- في كتاب "طريق الوصول ص 4 " في معرض كلامه على كتب شيخ الإسلام :"ومن أعظم ما فاقت به غيرها, وأهمه وتفردت على سواها: أن مؤلفها رحمه الله يعتنى غاية الاعتناء بالتنبيه على القواعد الكلية, والأصول الجامعة؛ والضوابط المحيطة في كل فن من الفنون التي تكلم بها.

ومعلوم أن الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان, والأصول للأشجار؛ لا ثبات لها إلا بها ,والأصول تبنى عليها الفروع والفروع تثبت وتتقوى بالأصول ,وبالقواعد والأصول يثبت العلم ويقوى ؛ وينمى نماءاً مطرداً ,وبها تعرف مآخذ الأصول ,وبها يحصل الفرقان بين المسائل التي تشتبه كثيراً"

وقال الشيخ السعدي – أيضًا: "من محاسن الشريعة وكمالها وجلالها أن أحكامها الأصولية والفروعية ,والعبادات والمعاملات,وأمورها كلها لها أصول وقواعد تضبط أحكامها وتجمع متفرقاتها ,وتنشر فروعها ؛ وتردها إلى أصولها ,فهي مبنية على الحكمة والصلاح ؛ والهدى والرحمة,والخير والعدل ؛ ونفى أضداد ذلك."الرياض الناضرة المطبوع ضمن المجموعة الكاملة(1 /522).

وقال الإمام الزركشي رحمه الله في المنثور في القواعد:1/  6566 -:

 "فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة, هي أوعى لحفظها ,وأدعى لضبطها ,وهى إحدى حِكَم العدد التي وُضع لأجلها ,والحكيم إذا أراد التعليم لابد أن يجمع بين بيانين :إجمالي تتشوف إليه النفس ,وتفصيلي تسكن إليه."
هنا أهمية العلم الشرعي

لا غرو: فإنه يورث الإيمان، بل لا يكون الإيمان إلا بــه، وثمرته اليقين، وهو من علامات الإيمان ودلائل إرادة الله الخير بصاحبه، وهو أجل النعم، فإنه حياة القلب ونوره، والجهل من صفات أهل النار، والعلم ميراث الأنبياء، وهو خير من النوافل، فإنه من أعظم الجهاد، وأجلّ العبادات
 إذ من الجهاد ، الجهاد بالحجة والبيان ، وهذا جهاد الأئمة من ورثة الأنبياء ، وهو أعظم منفعة من الجهاد باليد واللسان ، لشدة مؤنته ، وكثرة العدو فيه .
قال تعالى : " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا " [ الفرقان : 51-52 ]
يقول ابن القيم : " فهذا جهاد لهم بالقرآن ، وهو أكبر الجهادين ، وهو جهاد المنافقين أيضًا ، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين ، بل كانوا معهم في الظاهر ، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ، ومع هذا فقد قال تعالى : " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " ومعلوم أنَّ جهاد المنافقين بالحجة والقرآن .
والمقصود أنَّ سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ، ودعوة الخلق به إلى الله "[انظر كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم : ج 1 ص 70 ] . 
  "مَن جاءَ مَسجِدي هذا لم يَأتِهِ إلَّا لِخيرٍ يتعلَّمُهُ أو يعلِّمُهُ فَهوَ بمنزلةِ المجاهِدِ في سبيلِ اللَّهِ ومن جاءَ لغيرِ ذلِكَ فَهوَ بمنزلةِ الرَّجُلِ ينظرُ إلى متاعِ غيرِهِ"
الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 187
خلاصة حكم المحدث: صحيح 

"مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ عِلمًا ، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ ، وإنَّ الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحَتَها رضًا لطالبِ العلمِ ، وإنَّ طالِبَ العِلمِ يستَغفرُ لَهُ مَن في السَّماءِ والأرضِ ، حتَّى الحيتانِ في الماءِ ، وإنَّ فضلَ العالِمِ على العابِدِ كفَضلِ القَمرِ علَى سائرِ الكواكِبِ ، إنَّ العُلَماءَ هُمْ ورَثةُ الأنبياءِ ، إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا ، إنَّما ورَّثوا العِلمَ ، فمَن أخذَهُ أخذَ بِحَظٍّ وافرٍ"
الراوي: أبو الدرداء المحدث: الألباني - المصدر: صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 183 - خلاصة حكم المحدث: صحيح -الدرر السنية

من يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّينِ ، وإنما أنا قاسمٌ ويُعطي اللهُ ، ولن يزالَ أمرُ هذه الأُمَّةِ مستقيمًا حتى تقومَ الساعةُ ، أو : حتى يأتيَ أمرُ اللهِ
الراوي: معاوية بن أبي سفيان المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7312- خلاصة حكم المحدث: صحيح -الدرر السنية

ألا إنَّ الدُّنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها ، إلَّا ذِكرُ اللَّهِ وما والاهُ ، وعالِمٌ ، أو متعلِّمٌ
الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2322- خلاصة حكم المحدث: حسن - الدرر السنية 
  طلبة العلم هم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم : 
 فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( سيأتيكم أقوام يطلبون العلم ، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم : مرحبًا بوصية رسول الله وأقنوهم ـ علموهم ـ )) أخرجه ابن ماجه (247) بسند حسن  .

أقسام العلم الشرعي ـ من حيث الحكم ـ ثلاثة:
1- فرض عين: وهو تعلم ما يتأدى به الواجب العيني.
2- فرض كفاية: وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في أمور دينهم ودنياهم.
3- مستحب: وهو التبحر في أصول الأدلة، والإمعان فيما وراء القدر الذي يحصل به فرض الكفاية.


حكم طلب العلم

طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون طلب العلم واجباً على الإنسان عينًا أي فرض عين، وضابطه أن يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها، فإنه يجب عليه في هذه الحال أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة وكيف يقوم بهذه المعاملة، وما عدا ذلك من العلم ففرض كفاية وينبغي لطالب العلم أن يشعر نفسه أنه قائم بفرض كفاية حال طلبه ليحصل له ثواب فاعل الفرض مع التحصيل العلمي.
ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل هو من الجهاد في سبيل الله، ولاسيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم، وبدأ الجدل من كثير من الناس ، فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم. 

*ذكر الإمام الخطيب البغدادي في كتابه العظيم ـ تاريخ بغداد" في ترجمة القاضي أبي يوسف -يعقوب بن إبراهيم ـ المتوفى سنة182- تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمهم الله أجمعين، عن أبي يوسف وهو يحكي عن نشأته قال: "كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه فقال: يا بني لا تمدن رجلك مع أبي حنيفة فإن أبا حنيفة خبزه مشوي -يعني في سعة وغنى- وأنت تحتاج إلى المعاش.. فقصرت عن كثير من الطلب وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه.. فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي: ما شغلك عنا؟ قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي فجلست، فلما انصرف الناس دفع إلي صرة وقال: استمتع بهذه. فنظرت فإذا فيها مائة درهم، فقال لي: الزم الحلقة وإذا نفذت هذه فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إلي مائة أخرى ثم كان يتعاهدني، وما أعلمته بخلّة قط ولا أخبرته بنفاذ شيء، وكان كأنه يُخبَر بنفاذها حتى استغنيت وتمولت".
وفي كتاب "مناقب أبي حنيفة" للموفق الخوارزمي زيادة، قال أبو يوسف: "فلزمت مجلسه 29 سنة حتى بلغت حاجتي، وفتح الله لي ببركته وحسن نيته ما فتح من العلم والمال، فأحسن الله عني مكافأته وغفر له".
وبعد أن ذكر الخطيب هذه القصة مباشرة ساق قصة أخرى في نشأة أبي يوسف، ولكنه ساقها بصيغة التمريض والتضعيف فقال الخطيب رحمه الله: "وحُكِىَ أن والد أبي يوسف مات وخلف أبا يوسف طفلاً صغيرًا وأن أمه هي التي أنكرت عليه حضوره حلقة أبي حنيفة.
ثم ساق السند إلى أبي يوسف القاضي قال: "توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر؛ أمي فأسلمتني إلى قصار - خياط- أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: "ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه". فقال لها أبو حنيفة: مرِّي يا رعناء.. هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرَفَت عنه، وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك.
ثم لزمته فنفعني الله بالعلم ورفعني حتي تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلي هارون فالوذج، فقال لي هارون: يا يعقوب، كُلْ منه فليس كل يوم يعمل لنا مثله. فقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا "فالوذج بدهن الفستق" فضحكت، فقال لي: مم ضحكت؟ فقلت: خيرًا.. أبقى الله أمير المؤمنين قال: لتخبرني - وألح علي - فخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم ليرفع وينفع دينًا ودنيا، وترحم على أبي حنيفة، وقال: كان ينظر بعين عقله مالا يراه بعين رأسه".
وهذه القصة وإن كان في سندها ضعف إلا أنها تقر حقيقة لا تحتمل التكذيب ألا وهي "أن العلم لا يخذل أهله"، بل كما قال الرشيد "إن العلم ليرفع وينفع دينًا ودنيا"..



فهذا الإمام العلم القاضي الشهير والحافظ الكبير والعلامة الفقيه النحرير "شريك بن عبد الله" الذي ارتبط به وصف القضاء لكثرة ما قضاه فيه، يحكي عنه يحيى بن يزيد، كما جاء في تاريخ بغداد، يقول يحيى: "مر شريك القاضي بالمستنير بن عمرو النخعي فجلس إليه فقال: يا أبا عبد الله من أدبك؟ قال: أدبتني نفسي والله، ولدت بخراسان ببخارى فحملني ابن عم لنا حتى طرحني عند بني عم لي بنهر صرصر، فكنت أجلس إلى معلم لهم، فعلق بقلبي تعلم القرآن فجئت إلى شيخهم فقلت: يا عماه! الذي كنت تجرى علي ههنا أجره علي بالكوفة أعرف بها السنة وقومي، ففعل، قال: فكنت بالكوفة أضرب اللبن وأبيعه وأشتري دفاتر وطروساً فأكتب فيها العلم والحديث، ثم طلبت الفقه فبلغت ما ترى.
فقال المستنير بن عمرو لولده: سمعتم قول ابن عمكم، وقد أكثرت عليكم في الأدب ولا أراكم تفلحون فيه، فليؤدب كل رجل منكم نفسه، فمن أحسن فلها ومن أساء فعليها.
وقد أثبت هذا المعنى الإمام الهمام والعالم الرحال (أسد بن الفرات) الذي طوّف بين المشرق والمغرب ولقي أعلام العلماء في الدنيا وتتلمذ على أساتذة الفقه والحديث حتى صار من أعلام مذهب الإمام مالك.. ثم بعد التطواف والتحمل بأنواع العلوم رجع إلى القيروان فذاع صيته وظهر علمه وارتفع قدره؛ حتى ولاه الأمير قيادة الجيش والأسطول المتجه لغزو صقلية وقضاءه أيضًا.. فخرج في حفل عظيم وجمع فخيم من أهل العلم ووجوه الناس، فلما رأى "أسد" الناس خاصتهم وعامتهم بين يديه وخلفه قال لهم بعد حمد الله : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يا معشر الناس، والله ما ولِيَ لي أبٌ ولا جد ولاية قط، ولا أحد من سلفي رأى هذا قط، وما رأيت ما ترون إلا بالأقلام ـ يعني بتعلم العلم وتحصيله وكتابته وخدمته ـ، فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، واصبروا على شدته، فإنكم تنالون خيري الدنيا والآخرة".
ورحم الله الإمام ابن حزم الأندلسي حين قال:
من لم ير العلم أغلى .. .. .. من كل شيء يصاب
فليس يفلح حتى .. .. .. يُحثَى عليه التراب.
فمن أراد الرفعة في الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم بشروطه وآدابه.. وما أصدق قول ابن هشام، وما كان أشد نصحه لطلبة العلم حين قال:
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله .. .. .. ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلا .. .. .. يسيرا يعش دهرا طويلا أخا جهل.
  هنا 



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد:
فإن للعلم الشرعي أهمية كبرى في الإصلاح، وفي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى بالعلم، وحث عليه، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث عليه، وكان سلف الأمة يتميز بالاهتمام بالعلم، والاشتغال به، والعناية بتحصيله، ونحن أحوج ما نكون إلى العلم الشرعي لا سيّما في مثل هذه الأوقات، وفي مثل هذه الأزمان التي انتشر فيها الفساد العقائدي والأخلاقي إلى درجة كبيرة، فالعناية بالعلم أمر مهم جداً بالنسبة للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.

يقول الله سبحانه وتعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ "محمد:19، ويقول سبحانه وتعالى "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "آل عمران:18، وروى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين".
فالفقه في الدين علامة على إرادة الله سبحانه وتعالى لصاحب العلم الخير، فهو يعلم الإنسان صحة عقيدته وصحة عمله، ويعلمه الأخلاق والآداب الفاضلة، وكذلك يعلمه كيفية تصحيح عقائد الناس، وكيفية تصحيح أعمالهم وأخلاقهم وأهدافهم، والدعوة إذا خلت من العلم فهي دعوة فاشلة وباطلة؛ لأنها ستكون من البدع، وسيدعو صاحبها إلى البدع والضلالات والانحرافات، وكما وقع في تاريخ المسلمين من أشخاص ينتسبون إلى الدعوة، ويشتغلون بها، فلما اشتغلوا بها على غير بصيرة وعلى غير علم شرعي وقعوا في البدع وفي الضلالات.
ولهذا فإن رموز أهل البدع في تاريخ المسلمين كلهم ليسوا من أهل العلم، ولا يعرفون بالاشتغال بالعلم، فمثلاً: من أكبر الطوائف الضالة المنحرفة في تاريخ المسلمين الجهمية، ورأسها هو الجهم بن صفوان ، وهو لا يعرف عند أهل العلم بطلب للحديث، ولا بطلب للفقه، ولا العناية ولا اشتغال به، وكذلك أئمة البدع والضلالات على مر العصور لا يعرفون بالعلم، ولا يعرفون باشتغالهم بالعلم واهتمامهم به، ولهذا وقعت منهم هذه البدع، وأصبحوا ضالين مضلين، والعياذ بالله.
ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان عندما تظهر الفتن في حياة الناس يكون سبب ذلك انتشار وبروز الجهل، وخفاء العلم، ونسيانه عند الناس.
وأول شرك وقع فيه الإنسان كان بسبب نسيان العلم، وظهور الجهل، فوقع الشرك في أول أمة شركية وهم قوم نوح، ثم بعد ذلك جاء التوحيد على يد نوح عليه السلام، ثم بعد ذلك وقع الشرك، وهكذا حتى جاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأظهر التوحيد والتزمت به هذه الأمة.
فالعلم الشرعي له أهمية كبرى في الإصلاح، وفي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وبين الدعوة وبين العلم ارتباط كبير جدًا، وقد عني السلف الصالح رضوان الله عليهم بعلم العقيدة بالذات؛ وسبب ذلك: أن علم العقيدة هو الذي يبنى عليه صحة دين الإنسان، يعني: كونه مسلماً أو غير مسلم، وكونه من أهل الجنة الخالدين فيها، أو من أهل النار الخالدين فيها، وهذا مبني على العقيدة؛ ولهذا اعتنوا بها اعتناء كبيراً، وشرحوها ووضحوها في واقعهم العملي وفي مصنفاتهم التي كتبوها للناس.

وكانت عناية السلف الصالح رضوان الله عليهم بالعقيدة من جانبين:
الجانب الأول: هو تصحيح العقيدة.
والجانب الثاني: هو تعميق العقيدة في النفوس.
أما تصحيح العقيدة فهو: إزالة الشوائب التي قد تعلق بها سواءً من أهل البدع والضلالات، أو من تسويلات الشيطان ووساوسه التي يحدثها في نفس الإنسان، ولهذا أوضحوا العقائد وبينوها، وصححوها تصحيحًا واضحاً، وتصحيح السلف رضوان الله عليهم لهذه العقيدة اتخذ مسلكين:
المسلك الأول: هو مسلك عرض العقيدة.
والمسلك الثاني: هو مسلك الرد على الطوائف الضالة في العقيدة.

وممن كتب مثلاً في عرض العقيدة وشرحها الإمام اللالكائي رحمه الله في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ومنهم عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في كتابه السنة، والبربهاري في كتاب شرح السنة، وعدد كبير من أهل العلم ألفوا كتباً سموها بالسنة، ومن الأئمة المشهورين البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، فقد جعلوا في مصنفاتهم كتبًا عن العقائد، مثلاً: كتاب الإيمان، والرد على الجهمية وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وكتاب التوحيد والرد على المرجئة والجهمية، وغيرهم ممن أفرد كتباً خاصة بالسنة وبالعقيدة، يشرحون فيها العقيدة الصحيحة، ويوضحونها للناس.
وكذلك صححوا عقائد الناس عن طريق الرد على الفرق الضالة، فهذا الدارمي رحمه الله يصنف كتابًا يسميه: الرد على الجهمية، وكذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله له كتاب سماه: الرد على الجهمية والزنادقة، وهناك عدد كبير من الأئمة صنفوا في الرد على الجهمية مثل ابن مندة رحمه الله فله كتاب في الرد على الجهمية، وبعض الأحيان قد يأخذون علماً من أعلام أهل البدع ويردون عليه، مثل رد الدارمي رحمه الله على بشر المريسي الحنفي بالذات، وقد خصوه برد خاص؛ لأنه كان إمام المعتزلة في زمانه، وعن بشر المريسي أخذ ابن أبي دؤاد الذي استطاع أن يقنع المأمون بفكرة خلق القرآن، وحصلت بعد ذلك الفتنة المشهورة والتي هي فتنة خلق القرآن، وامتحن بها أئمة أهل السنة، ونصر الله سبحانه وتعالى أئمة أهل السنة، وظفروا على أهل البدع، ومنذ ذلك الوقت أفل نجم المعتزلة فلم يظهر بعدها.
إذًا: هذه الجهة الأولى وهي تصحيح العقيدة.
الجهة الثانية: وهي تعميق العقيدة في النفوس، ومعنى ذلك: العناية والاشتغال بأعمال القلوب مثل: محبة الله سبحانه وتعالى، والخوف منه، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والخشوع.. ونحو ذلك من أعمال القلوب، وهي من أعظم أعمال الإيمان، وهي من العقيدة؛ لأنه في فترة من الفترات ظن كثير من المنتسبين إلى السنة أن العقيدة هي مجرد عرض لبعض الأفكار في أسماء الله وفي صفاته وفي التوحيد وفي الإيمان، والرد على الفرق الضالة فقط، وظنوا أن هذه هي العقيدة، والعقيدة أشمل وأكبر من ذلك، فالعقيدة تعني: امتثال الاعتقاد الصحيح عملياً، وبناءه في النفس، ثم بعد ذلك إذا وجد ضلال في الاعتقاد فإنه يصحح، وإذا وجدت فرقة ضالة فإنه يرد عليها، والرد على أهل الضلال فرع من العقيدة وليس بأصل، فالأصل هو تعميق العقيدة في النفوس، ولهذا فإن آيات القرآن عنيت عناية كبيرة جداً في الاهتمام بتعميق الاعتقاد في نفوس الناس، فالسور المكية تتحدث كثيراً عن أسماء الله وعن صفاته، وتتحدث عن الإيمان، وعن معسكر أهل الإيمان، وتتحدث عن الكفر، وعن معسكر أهل الكفر، وعن صفات المؤمنين وعن صفات الكفار، وتميز بينهم، ففيها تمييز لصفوف أهل الإيمان وأهل الكفر، فالقرآن الكريم مليء بالعقيدة، بل لا تخلو آية من القرآن إلا وهي مبنية بناءً عقدياً، حتى الآيات التي تتحدث عن الأحكام الفقهية ففي الغالب تنتهي باسم من أسماء الله، قال تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218]، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، وحتى الآيات التي في الطلاق، والرجعة، والتي في البيع والشراء، والتي في الأموال، وهكذا نجد أنها تربط الإنسان بالعقيدة، وتبني الأحكام على العقائد، فالعقائد هي الأصول التي يبنى عليها كل شيء، فالأخلاق تنبني على العقائد، وكذلك الأعمال تنبني على العقائد، فالعقائد هي أصل وكل شيء يبنى عليها، ومن قوة المنهج السلفي أنه يربط كل شيء بالعقيدة، ويربط كل حياة الناس بالعقيدة فهو يربط الفقه بالعقيدة، ويربط السلوك والأخلاق بالعقيدة، ويربط السياسة بالعقيدة، ويربط اجتماعهم بالعقيدة، ويربط حياتهم الأسرية بالعقيدة، إذاً فالعقيدة قضية مهمة، ينبغي إدراكها والعناية بها.
والخلاف وقع في باب الأسماء والصفات، بالذات عندما ظهر الجعد بن درهم ، وقد ظهرت بوادر لهذا الخلاف في بداية زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقضي عليها، وقد جاء في الحديث (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتناقشون في القدر، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغضب كأنما فقئ في وجهه حب الرمان ونهاهم، وقال: أبهذا أمرتم؟ تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟!) فنهاهم عن ذلك.
وهذه حادثة وقعت وطريقة من طرق دراسة العقيدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فكف الصحابة رضوان الله عليهم، لما نهاهم أن يضربوا كلام الله بعضه ببعض بغير علم.
الحادثة الثانية وقعت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي قصة صبيغ بن عَسَل أو ابن عِسْل أو ابن عِسَل المشهورة، وهو أنه كان يتتبع ويشتغل بعناية المتشابه، مثل قوله تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فناداه عمر وقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ ، قال: وأنا عبد الله عمر ، وقد كان أعد له عراجين النخل فضربه على رأسه حتى أدمى وجهه، وقال: كفى يا أمير المؤمنين! فقد ذهب والله! ما تجد في رأسي، فتركه عمر ، وقال: لو أنك من محلوقي الرءوس لفعلت بك وفعلت، يقصد: الخوارج، ثم بعد ذلك ذهب إلى البصرة وحبس فيها، أي: فرضت عليه إقامة جبرية، فلما خرجت الخوارج بعد ذلك قالوا: هيا يا صبيغ ! أي: اخرج معنا، فقال: نفعتني موعظة العبد الصالح، يقصد عمر الذي ضربه بعرجون النخل حتى أدمى رأسه، فأوقف عمر أيضًا هذا الطراز من البحث في باب أسماء الله وصفاته، وفي باب العقيدة عمومًا.
فلما تقدم الزمان، وجاء زمن الدولة العباسية ظهر فيها من يطالب بالترجمة، ومن يطالب بتراجم كتب الفلاسفة، وممن ذكر ذلك السيوطي في كتاب اسمه: المنطق والكلام، وهو عن علم المنطق والكلام، وقد ذكر: أن المأمون أرسل إلى ملك الروم يطلب منه كتب الفلاسفة، وكان قد جمعها في مكان واحد وبنى عليها سورًا لا باب له؛ حتى لا يأخذها الرومان فتفرقهم، وعندما وصلت رسالة المأمون إلى ملك الروم نصحوه أن يعطي هذه الكتب للمأمون وقالوا المقولة المشهورة: إن هذه الكتب ما دخلت في بلد إلا فرقته ومزقته، وبالفعل أرسلها إلى المأمون ثم بعد ذلك ترجمت كتب الفلاسفة، وكانت هذه الترجمة وصمة عار في تاريخ المسلمين؛ لأن المسلمين ليسوا بحاجة إلى الفكر اليوناني الوثني في العقائد، فإن الله عز وجل أغنانا بالعقيدة الصحيحة، وبما ذكره في كتابه عن الكون، وعن الإنسان، وعن العقيدة التي ينبغي للإنسان أن يتمناها بعد الموت، ولهذا تعتبر هذه الحادثة من أعجب الحوادث؛ لأن العادة أن الأمة الضعيفة هي التي تأخذ من علوم الأمة القوية ومن أفكارها مثل حال العالم الإسلامي الآن فإنه يتقبل ما عند العالم الغربي من أفكار ونظريات، وهناك من يروج لها في حياة المسلمين اليوم، لكن العجيب أن الأمة في تلك الفترة كانت من أقوى الأمم، وكانت أمة رائدة قوية مسيطرة، ومع هذا أخذت من التراث اليوناني، وأصبح غزواً يونانيًا على بلاد المسلمين.
فترجمت الكتب الفلسفية التي تتحدث عن الله، وعن الكون، وعن الإنسان، وعن النبوة، وعن العقائد، ترجمة هذه الكتب أثر تأثيرًا كبيرًا في عقول كثير ممن قرأها ممن ليس مشتغلًا بالعلم الشرعي، كما أن مناقشات كثير من هؤلاء الجهلة لأصحاب الديانات الأخرى، كالبوذية والديصانية وغيرها من الديانات الأخرى أثرت تأثيرًا كبيرًا في عقائد هؤلاء الأشخاص، وظهر مثل الجعد بن درهم الذي يقول: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وظهر الجهم بن صفوان وأنكر صفات الله عز وجل وأسماءه، وقال: ليس لله صفات وليس له أسماء، وإذا سئل: أين الله؟ قال: هذا الهواء الذي يجري بيننا، وسبب ذلك: أنه ناقش طائفة من الطوائف الضالة تسمى السمنية، وهؤلاء ينكرون الأشياء غير المحسوسة، أي: أنهم ينكرون الغيب، فقالوا للجهم : أين إلهك؟ صفه لنا؟ هل هو شيء تحسه؟ قال: لا، قالوا له: هل هو شيء تذوقه؟ قال: لا، قالوا: هل هو شيء تراه؟ قال: لا، قالوا: إذن أين إلهك؟! يقول المؤرخون: فاعتكف الجهم في بيته أربعين يوماً لا يصلي، ثم بعد ذلك خرج على الناس وقال: إن إلهي هو هذا الهواء وليس له اسم وليس له صفة، وهذا أشبه ما يكون بالإلحاد، فأنكر وجود الله عز وجل لكن بطريقة أخرى.
والمهم: أنها ظهرت بوادر طوائف تنفي صفات الله عز وجل، وصنفوا الكتب في ذلك وكتبوها، وصارت لهم طوائف وسموا بأهل الكلام؛ لأنهم اشتغلوا فيما لا فائدة فيه. قال بعضهم: إن أول مسألة نوقشت هي مسألة كلام الله عز وجل، وقال بعضهم غير هذا.
الشاهد: هو أن هذه الدراسة ستكون في باب واحد من أبواب العقيدة وهو باب الأسماء والصفات، وأبواب العقيدة كثيرة: باب الإيمان، باب التوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، باب البعث والحياة البرزخية، باب النبوات.. وأبواب كثيرة.
وهذا باب توحيد الأسماء والصفات، والذي حواه هذا الكتاب المسمى: القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى.
 هنا 
===========
الحديث الآحاد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق