الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

مسألة: الاسترقاء ينافي التوكل أو لا ينافيه، وأدلة الفقهاء في ذلك



مسألة: الاسترقاء ينافي التوكل أو لا ينافيه، وأدلة الفقهاء في ذلك


اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: قول جمهور الحنابلة، وهو ترجيح النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية و القاضي عياض من المالكية، قالوا:
هو قادح في كمال التوكل.

واستدلوا على ذلك من الأثر والنظر: فأما من الأثر:

فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)، ثم تركهم ودخل، فخاضوا في صفة هؤلاء، فقال بعضهم: هم الذين ولدوا في الإسلام، وأدلى كل منهم بدلوه، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هم الذين لا يسترقون، وفي رواية: لا يرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)

والحديث له روايتان: الرواية الأولى: لا يسترقون.

الرواية الثانية: لا يرقون.

ورواية: (لا يرقون) رواية شاذة لا تصح، ومن أولها قال: لا تكون برقى شركية، وهذا كلام مخالف للظاهر لا يصح، فإن قال: لا يصح لنا أن نوهم الراوي، نقول: بل وهم الراوي؛ لأنه أتى بلفظة غير متفق عليها، والرواية المتفق عليها: (لا يسترقون) فرواية: (لا يرقون) شاذة ضعيفة لا يؤخذ بها، والصحيح الراجح: هي رواية: (لا يسترقون) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رقاه جبريل، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالرقية، وذلك بقوله: (استرقوا لها، فإن بها سفعة في وجهها، فقال أصحاب هذا القول: إن الصفة التي جعلتهم من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة: أنهم على ربهم يتوكلون، وهذا التوكل تمامه بخصال ثلاثة: أنهم لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، فقال: لا يسترقون) فمن استرقى فقد نافى التوكل، وتكون الرقى قادحة في كمال التوكل.

واستدلوا على ذلك أيضاً بدليل أصرح من هذا الدليل، ألا وهو: جاء في مسند أحمد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اكتوى - لأن الكي مكروه في شرعنا - أو استرقى فقد برئ من التوكل) وهذا صريح بأن من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل.

وأما دليلهم من النظر فقالوا: إن المرء إذا استرقى فرقاه الراقي فقدر الله له الشفاء، فإن قلبه سيميل للراقي، فيكون في قلبه نوع ميل لغير الله جل في علاه، وهذا يقدح في كمال التوكل، لا سيما إذا تكرر هذا الأمر، وتكررت الرقية وتكرر الشفاء.
القول الثاني: قول كثير من المالكية، ورجحه القرطبي

و ابن جرير الطبري فقالوا: الرقى ليست قادحة في التوكل.
واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الرقى، وهذا على العموم.
الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا) ولو كانت قادحة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً قالوا: هي بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وهذه يكون فيها تمام التوكل؛ لأنها بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى.
واستدلوا أيضاً بدليل آخر وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاضربوا لي معكم بسهم) فأقر الرقية بالفاتحة، وهذا الحديث ليس فيه نزاع بحال من الأحوال.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام) فقالوا: هذا نوع من التداوي المعنوي، لأن الأسباب: أسباب شرعية، وأسباب قدرية مجربة، والأسباب الشرعية: معنوية، وحسية، فقالوا: إن الرقى نوع من أنواع التداوي، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم، واسترقى للمرأة التي في وجهها سفعة، أي: سواد، فقالوا: هذه أدلة على أن الرقى لا تقدح في كمال التوكل.
وأما من النظر فقالوا: إن الذي يسترقي لا في الراقي ولا يعتقد في الرقية، وإنما يعتقد في الرب الذي هو مسبب الأسباب، فإن كان اعتقاده صحيحا فلا قدح في كمال التوكل.
 الترجيح بين القولين والرد على أدلة القول المرجوح
والصحيح الراجح من ذلك: هو القول الأول، وهو: أن طلب الرقية من الغير قادح في التوكل، أو قادح في كمال التوكل، لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسترقون)، أي: لا يطلبون الرقية.
ولصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم:
أي: برئ من كمال التوكل وليس من كل التوكل،
وذلك للأدلة الأخرى الظاهرة على ذلك.

وأما الرد على المخالف فنقول:
إن الأدلة ليست في محل النزاع، والدليل الوحيد الذي هو في محل النزاع: حديث: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام)، فنقول لهم: نحن معكم في أن هذا من الدواء، ولكن من الدواء ما هو مكروه طلبه، مع أنه يجوز أن يتداوى به، ومن ذلك الرقية، فيكره للمرء أن يطلبها، لأن هذا قادح في كمال التوكل.
إذاً: فالحديث ليس في محل النزاع، فليس نزاعنا هل هو دواء أم لا؟ وإنما نزاعنا هل هو قادح في التوكل أم لا؟ فإن قالوا: أنتم لم تفهموا دليلنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فقال: (تداووا)، أي: اطلبوا الدواء، واطلبوا الرقية، قلنا: نعم، كلامكم صحيح، وهو وجه قوي جداً، ولكنه لا يقوى على أن يجابهنا.
فإن قالوا: كيف ذلك؟ قلنا: (تداووا) عموم مطلق، أي: تداووا عباد الله لكل شيء، واطلبوا الدواء، ولا تتداووا بحرام، وهذا العام قد خصص بحديث: (لا يسترقون) فمن طلب الرقية فقد برئ من التوكل، فيبقى معنى تداووا: اطلبوا الدواء المجرب، والدواء الحسي والمعنوي، وذلك دون أن تسترقوا، أي: أنكم لو طلبتم الرقية فقد قدح ذلك في كمال توكلكم.
إذاً: هذا عام مخصوص بالاسترقاء؛ لأن الإسترقاء قادح في كمال التوكل، وهذا الراجح والصحيح.
فإن استدل أحد بأنها من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، فتبرع ورقى غيره فنقول: الرقية تأتي ثمارها بشرطين اثنين: الأول: أن يكون الراقي تقياً ورعاً.
الثاني: أن يكون المسترقي متيقناً.
فإن تخلف شرط من الشرطين فلا تثمر النتيجة؛ لأن كل حكم مرتبط بشروط أو بأسباب لا يوجد إلا بوجود هذه الأسباب.

هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق