الثلاثاء، 19 مايو 2015

تحويــل القِبْلَــة

تحويــل القِبْلَــة 
 اقتضـت حكمـة الله عـز وجـل أن يبعـث علـى النـاس فـي عهـد النبـوة بيـن الفينـة والفينـة ريـحَ فتنـة يبتلـي بهـا النفـوس ؛ ليظهـرَ الصـادقَ فـي إيمانـه ،
الـذي لا تزلزلـه الفتـن ، ولا تنـال منـه الزعـازع ،
مـن المنافـق الـذي لا يلبـث أن يتكشـف ما فـي نفسـه مـن ظلمـات الشـكوك ، وعوامـل الهزيمـة فيـذوب فـي الفتنـة كمـا يـذوب الملـح فـي المـاء .
فكـان تحويـل القبلـة من هـذه الابتـلاءات الكبـرى التـي أراد الله بها هـز المجتمـع الإسـلامي لتتسـاقط عـن شـجرته المباركـة الأوراق اليابسـة والثمـرات العفنـة ،
ولا يبقـى إلا القـوي الجيـد الـذي له من صلابـة الإيمـان وقوة اليقيـن ونـور البصيـرة ما يَـرُد عنـه مضـلات الفتـن وينجيـه مـن بوائِقِهـا .
* فعـن البـراء بـن عـازبٍ أن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كـان أولَ مـا قَـدِمَ المدينـةَ نـزل علـى أجـداده أو قـال : أخوالـهِ مـن الأنصـار ، وأنـه صلـى قِبـلَ بيـت المقـدسِ سـتة عَشَـرَ شـهرًا ، أو سـبعة عشـرَ شـهرًا ، وكـان يعجبـه أن تكـون قبلتـه قِبـلَ البيـتِ ، وأنـه صلـى أول صـلاةٍ صلاهـا صـلاة العصـر ، وصلـى معـه قـوم ، فخـرج رجـل ممـن صلـى معـه فمـر علـى أهـل مسـجد وهـم راكعـون فقـال : أشـهد بالله لقـد صليـتُ مـع رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آلهوسلم ـ قِبَـلَ مكـةَ ، فـداروا كمـا هـم قِبَـلَ البيـتِ وكانـت اليهـودُ قـد أعجبهـم إذ كـان يصلـي قِبَـلَ بيـتِ المقـدسِ وأهـلُ الكتـابِ . فلمـا ولـى وجهـه قِبَـلَ البيـتِ أنكـروا ذلـك .
صحيح البخاري . متون / ( 2 ) ـ كتاب : الإيمان / ( 30 ) ـ باب :الصلاة من الإيمان ... / حديث رقم : 40 / ص : 15 .
لمـا كـان شـأن ذلـك التحويـل عظيمـًا حيـث اتخـذ منه أعـداء الإسـلام فرصـة للطعـن وإثـارة الشـكوك ، كقولهـم : إن كانـت القبلـة الأولـى حقـًا ،فقـد تركهـا ، وإن كانـت الثانيـة هـي الحـق ، فقـد كـان علـى باطـل .وكقولهـم : إن محمـدًا مضطـرب فـي أمـره ، ينقــض اليــوم مـا أبـرم بالأمـس ، يصلـي كـل يــوم
إلـى قبلـة . إلـى غيـر ذلـك مـن العبـارات التـي كانـوا يريـدون بهـا بلبلـة الأفكـار والتأثيـر  علـى ضعفـاء الإيمـان مـن المسـلمين ، وقـد بلغـوا مـن ذلـك بعـض ما أرادوا ، فارتـد النـاس مـن ضعفـة الإيمـان عـن دينهـم . ونظـرًا لمـاصاحـب أمـر التحويـل مـن الإرجـاف والطعـن ، فقـد نزلـت قبلـه آيـات كثيـرة تتحـدث عـن النسـخ الـذي كـان اليهـود ينكرونـه .{ مَـا نَنسَـخْ مِـنْ آيَـةٍ أَوْ نُنسِـهَا نَـأْتِ بِخَيْـرٍ مِّنْهَـا أَوْ مِثْلِهَـا أَلَـمْ تَعْلَـمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قدِيـرٌ } .سورة البقرة / آية : 106 .
كمـا تحدثـت ـ الآيـات ـ عـن رغبـة أهـل الكتـاب فـي أن يـردوا المؤمنيـن كفـارًا مثلهـم مـن بعـد مـا تبيـن لهـم الحـق ، قـال تعالـى :
{ وَدُّواْ لَـوْ تَكْفُـرُونَ كَمَـا كَفَـرُواْ فَتَكُونُـونَ سَـوَاء ... } . سورة النساء / آية : 89 .
* ثـم ذكـرت الآيـات بعـد ذلـك أن اليهـود والنصـارى يختلف بعضهـم علـى بعـض ويشـهدون بعضهـم  علـى بعـض بأنهـم ليسـوا علـى شـيء وهـم يتلـون
الكتـاب ، قـال تعالـى :
{ وَقَالَـتِ الْيَهُـودُ لَيْسَـتِ النَّصَـارَى عَلَـىَ شَـيْءٍ
وَقَالَـتِ النَّصَـارَى لَيْسَـتِ الْيَهُـودُ عَلَـى شَـيْءٍ وَهُـمْ يَتْلُـونَ الْكِتَـابَ .
.. } .
سورة البقرة / آية : 113 .

* وإنـه مـن تمـام النعمـة على الأمـة التي تعـد شـريعتها متصلـة بشـريعة إبراهيـم ـ عليه السلام ومجـددة لهـا أن تكـون قبلتهـا هـي قبلـة إبراهيـم ـ عليه السلام ـ لتتـم لهـا الهدايـة والنعمـة .فقـد ذكــر سـبحانه مـا قــام بـه " إبراهيـم " مـنرفـع قـواعـد البيــت الحـرام بمعونـة ولــده " إسـماعيل " عليهمـا السـلام ودعائهمـا بعـد الفـراغ مـن ذلـك بـأن يتقبـل الله عملهمـا ، وأن يجعـل ذريتهمـا أمـة مسـلمة لـه سـبحانه وأن يريهمـا مناسـكهما ويتـوب عليهمـا ، وأن يبعـث فـي هـذه الأمـة المسـلمة رسـولاً منهـا يتلـو عليهـم آيـات الله ،ويزكيهـم ، ويعلمهـم الكتـاب والحكمـة قـال تعالـى : { وَإِذْ يَرْفَـعُ إِبْرَاهِيـمُ الْقَوَاعِـدَ مِـنَ الْبَيْـتِ وَإِسْـمَاعِيلُ رَبَّنَـا تَقَبَّـلْ مِنَّـا إِنَّـكَ أَنـتَ السَّـمِيعُ الْعَلِيـمُ * رَبَّنَـا وَاجْعَلْنَـا مُسْـلِمَيْنِ لَـكَ وَمِـن ذُرِّيَّتِنَـا أُمَّـةً مُّسْـلِمَةً لَّـكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَـا إِنَّـكَ أَنـتَ التّـَوَّابُ الرَّحِيـمُ * رَبَّنَـا وَابْعَـثْ فِيهِـمْ رَسُـولاً مِّنْهُـمْ يَتْلُـو عَلَيْهِـمْ آيَاتِـكَ وَيُعَلِّمُهُـمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَـةَ وَيُزَكِّيهِـمْ إِنَّـكَ أَنـتَ العَزِيـزُ الحَكِيـمُ }. سورةالبقرة / آية : 127 : 129


* ثـم أخبـر أن ملـة إبراهيـم وهـي الإسـلام الـذي يقـوم علـى التوحيـد الخالـص مـن كـل شـائبة ،  لا يرغـب عنهـا إلا كـل سـفيه أحمـق ، وأن إبراهيـم وصـى بهـا بنيـه ، وكذلـك يعقـوب عليهمـا السـلام قـال تعالـى : { وَمَـن يَرْغَـبُ عَـن مِّلَّـةِ إِبْرَاهِيـمَ إِلاَّ مَـن سَـفِهَ نَفْسَـهُ وَلَقَـدِ اصْطَفَيْنَـاهُ فِـي الدُّنْيَـا وَإِنَّـهُ فِـي الآخِـرَةِ لَمِـنَ
الصَّالِحِيـنَ * إِذْ قَـالَ لَـهُ رَبُّـهُ أَسْـلِمْ قَـالَ أَسْـلَمْتُ لِـرَبِّ الْعَالَمِيـنَ * وَوَصَّـى بِهَـا إِبْرَاهِيـمُ بَنِيـهِ  وَيَعْقُـوبُ يَـا بَنِـيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَـى لَكُـمُ الدِّيـنَ فَـلاَ تَمُوتُـنَّ إَلاَّ وَأَنتُـم مُّسْـلِمُونَ * أَمْ كُنتُـمْ شُـهَدَاء إِذْ حَضَـرَ يَعْقُـوبَ الْمَـوْتُ إِذْ قَـالَ لِبَنِيـهِ مَـا تَعْبُـدُونَ
مِـن بَعْـدِي قَالُـواْ نَعْبُـدُ إِلَهَـكَ وَإِلَهَ آبَائِـكَ إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْـمَاعِيلَ وَإِسْـحَاقَ إِلَهـاً وَاحِـداً وَنَحْنُ لَـهُ مُسْـلِمُونَ } .                      سورة البقرة / آية : 130 : 133 .

* وإنـه لمـن تمـام النعمـة علـى الأمـة التـي تعـد شـريعتها متصلـة بشـريعة إبراهيـم عليـه السـلام ،  ومجـددة لهـا أن تكـون قبلتهـا هـي قبلـة إبراهيـم لتتـم بهـا الهدايـة والنعمـة ، تحقيقـًا لقـول الله تبـارك وتعالـى : { ... وَلأُتِـمَّ نِعْمَتِـي عَلَيْكُـمْ وَلَعَلَّكُـمْ تَهْتَـدُونَ } .                                                             سورة البقرة / آية : 150 .

* فمـن تمـام النعمـة التوجـه لقبلـة إبراهيـم ـ عليه السلام ـ . قـال تعالـى : { وَمِـنْ حَيْـثُ خَرَجْـتَ فَـوَلِّ وَجْهَـكَ شَـطْرَ الْمَسْـجِدِ الْحَـرَامِ وَحَيْـثُ مَـا كُنتُـمْ فَوَلُّـواْ وُجُوهَكُـمْ شَـطْرَهُ لِئَـلاَّ يَكُـونَ لِلنَّـاسِ عَلَيْكُـمْ حُجَّـةٌ إِلاَّ الَّذِيـنَ ظَلَمُـواْ مِنْهُـمْ فَلاَ تَخْشَـوْهُمْ وَاخْشَـوْنِي وَلأُتِـمَّ نِعْمَتِـي عَلَيْكُـمْ وَلَعَلَّكُـمْ تَهْتَـدُونَ } . سورة البقرة / آية : 150 .
* ثـم أمرهـم بمـا لا يتـم كـل ذلـك إلا بـه ، وهـو الاسـتعانة بالصبـر والصـلاة ، وأخبرهـم أنـه مـع الصابريـن ، قـال تعالـى :{ يَـا أَيُّهَـا الَّذِيـنَ آمَنُـواْ اسْـتَعِينُواْ بِالصَّبْـرِ وَالصَّـلاَةِ إِنَّ اللهَ مَـعَ الصَّابِرِيـنَ } .سورة البقرة / آية : 153 .
ولنرجـع إلـى شـرح بقيـة الحديـث مـن قـول البـراء بـن عـازب ـ رضي الله عنه ـ :
" فصلـى مـع النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ  رجـل ولـم يعـرف اسـم ذلـك الرجـل ، ولا القـوم الذيـن مـر بهـم وهـم يصلـون فـي مسـجدهم ، ولكنهـم علـى كـل حـال ليسـوا أهـل قبـاء ، فـإن أهـل قبـاء لـم يعلمـوا
بتحويـل القبلـة إلا فـي صـلاة الصبـح .


كمـا جـاء فـي حديـث ابـن عمـر : بينمـا النـاس فـي صـلاة الصبـح بِقُبَـاء إذ جاءهـم آتٍ فقـال :إنَّ رســولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قـد أُنـزِلَ عليـه الليلـةَ . وقـد أُمـر أن يسـتقبل الكعبـة فاسـتقبِلوها وكانـت وجوههـم إلـى الشـام فاسـتداروا إلـى الكعبـة .
صحيح مسلم . متون / ( 5 ) ـ كتاب : المساجد ومواضع الصلاة / ( 2 ) ـ باب :تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة / حديث رقم :
13 ـ ( 526 ) / ص : 128 .

* وقـد اختلـف فـي أول صـلاة صلاهـا رسـول الله ـ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم
ـ إلـى الكعبـة بعـد التحويـل ،
فحديـث " البـراء بـن عـازب " هنـا يفيـد أنهـا صـلاة العصـر

* وَرُوِيَ عـن ابـن سـعيد بـن المعلـى أنهـا صـلاة الظهـر ، وأنـه هـو وصاحـب لـه كانـا أول مـن صلـى مـع النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ  إلـى القبلـة الجديـدة .
وَرُوِيَ كذلـك أن الأمـر بالتحويـل نـزل بعـد مـا صلـى النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ  ركعتيـن مـن الظهـر ، فاسـتدار فـي الصـلاة ،  وكـان ذلـك فـي مسـجد بني سـلمة ، فسـمي المسـجد " ذا القبلتيـن " .
* ويؤخـذ مـن حديـث البـراء بـن عـازب جملـة مـن الأحكـام الأصوليـة والفرعيـة ، ذكرهـا العلامـة ابـن دقيـق العيـد فـي شـرحه علـى عمـدة الأحكـام عنـد الكـلام علـى حديـث ابـن عمـر المتقـدم ، ونحـن نجملهـا فيمـا يأتـي :
1ـ قبـول خبـر الواحـد ، وعـادة الصحابـة فـي ذلـك اعتـداد بعضهـم بنقــل بعـض ، وورد عنهـم
فـي ذلـك مـا لا يُحصـى ، ومعنـى ذلـك أن خبـر الواحـد العــدل ، يفيـد العلـم بمضمونـه ويجـب العمـل بـه ، خلافـًا للمتكلميـن مـن المعتزلـة وغيرهـم .
2 ـ جـواز نسـخ السـنة بالكتـاب ، فإنمـا الصـلاة إلـى بيـت المقـدس إنمـا كانـت بالسـنة ، إذ لا نـص فـي القـرآن علـى ذلـك ، وتحويـل القبلـة إلـى الكعبـة إنمـا كـان بالكتـاب .
3 ـ دلَّ الحديـثُ علـى أن حكــم " الناسـخ " لا يثبـت فـي حـق المكلـف قبـل بلـوغ الخطــاب لـه ، فإنهـم بنـوا ـ صلاتهـم ـ علـى ما فعلـوه مـن الصــلاة جهـة بيـت المقـدس ، ولـو ثبـت الحكـم فـي حقهـم قبـل بلـوغ الخبـر إليهـم ؛ لكانـت صلاتهـم إلى بيـت المقـدس باطلـة ، فـلا يجـوز البنـاء
عليهـا ، بل كـان يجـب اسـتئنافها( أي : إعادتهـا من جديـد ) .
4 ـ فيـه دليـل علـى جــواز تنبيـه مـن ليـس فـي الصــلاة لمـن هـو فيهـا ، وأن يَفْتَـح عليـه القـراءة .
5 ـ قـال الطحـاوي : فـي هـذا دليـل علـى أن مـن لم يعلـم بفـرض الله تعالـى ، ولـم تبلغـه الدعـوة ، ولا أمكنـه اسـتعلام ذلـك مـن غيـره ، فالفـرض غيـر لازم لـه ، والْحُجَّـة غيـر قائمـة عليـه .
تعقيـــب :
********
1 ـ نقـل الإمـام القرطبـي عـن أبـي حاتـم البسـتي قـال :
صلـى المسـلمون إلـى بيــت المقـدس سـبعة عشـر شـهرًا
أيـام ، وذلـك أن قـدومـه صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم المدينـة كـان يـوم الإثنيـن لاثنتـي عشـرة ليلـة ، خلـت مـن
شـهر ربيـع الأول ، وأمـره الله عــز وجــل باسـتقبال الكعبـة يـوم الثلاثـاء للنصـف الأول مـن شـعبان
2ـ ويحكـي ابـن كثيـر فـي البدايـة والنهايـة ، وكذلـك فـي تفسـيره أن ذلـك كـان فـي رجـب سـنة اثنتيـن علـى رأس سـتة عشـر شـهرًا .
علـى أن الخـلاف فـي وقـت التحويـل لا يهمنـا بقـدر مـا يهمنـا مـا يفعلـه النـاس فـي المواسـم بمـا طغـى علـى ما وقـع فيهـا مـن أحـداث هامـة مـن أمـر الإسـلام .
مجلة التوحيد العدد الخاص بشـعبان : 1414 هـ ، 1415 هـ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق