الأحد، 5 أغسطس 2012

رمضان والجود



رمضان والجود


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/3481/#ixzz22gMkdaEn




أمّا بعد:
فأوصيكم - أيّها النّاس - ونفسي بتقوى الله - عزّ وجلّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

أيُّها المسلمون:
إنَّكم قد بَلَغتم شهرًا كريمًا، وأَدْرَكْتُم مَوْسِمًا عَظِيمًا، فاحْمدوا الله على وافر فضله، وسابغ نِعَمِه، واغتبطوا بِطاعَتِه والتَّقَرُّب إليه، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، لقد أمدَّ الله في الأعمار، وصَحَّح الأبدان، ووسَّع الأرزاق، وبسط الأمن، وأطعم منَ الجوع، وآمن منَ الخوف، وهدى وآوى وأغنى وأقنى، فله الحمد على ما أولى وأعطى، وله الشُّكر ما تجدَّدت نعمه، وترادفت آلاؤه، ألا وإنَّ مَن شَكَر نعمة الله على ما أتاح لنا من موسمٍ تضاعف فيه الأجور والحسنات، وتُقَال فيه العثرات وتُمحَى السَّيئات، أن نضاعفَ صالح الأعمال قدر طاقتنا، ونتزوَّد من التَّقوى ما استطعنا، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16].

وإنَّ لنا في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأسوة الحسنة والقدوة المباركة، ثَبَتَ في الصَّحيحين عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضان، فيُدارسه القرآن، فلرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير منَ الرِّيح المُرْسَلة، نعم - أيُّها الإخوة - لقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعلم ما رمضان، وما فضل العمل فيه، ومِن هنا، فقد كان يضاعف فيه جوده، هذا وهو محمدٌ رسول الله، أفضل خَلْق الله، وأتقى عباد الله، مَن غُفِرَ له ما تَقَدَّم مِنَ الذُّنوب، وما تَأَخَّر، ومع ذلك يضاعف الجود في رمضان، ويسارع إلى الخير، ويغتنم فضيلة الوقت، وشرف الزَّمان، فكيف بنا نحن المُقَصِّرين المُذْنِبين، كيف بنا نحن الفقراء المحتاجين، كيف وقد فتحت منَ الخير أبوابه، ونادى المنادي: يا باغي الخير أقبلْ؟ كيف ونحن في ليالي العتق من النّار؟ أبواب الجنَّة مُفَتَّحةٌ، وأبواب النَّار مغلقةٌ، والشَّياطين مُصَفَّدةٌ، والنُّفوس على الخير مُقبلةٌ، ومع ذلك نُدْعى إلى أنواع الخير فنَتَثاقَل، وتفتح لنا سبل البرِّ فنَتَغافَل، ونسأل الفضل فنَتَبَاطَأ ونَتَجَاهَل؛ بل بعضنا يشرد ويأبى أشدَّ الإباء، قال - صلى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ أمَّتي يدخلون الجنَّة، إلاَّ مَن أَبَى))، قالوا: يا رسول الله، ومَن يأبى؟ قال: ((مَن أطاعني دخل الجنَّة، ومَن عَصَانِي فَقَد أَبَى)).

ولكم أن تستغربوا كما استغرب الصَّحابة، ولكم أن تَتَساءَلوا كما تَسَاءلوا، هل ثمَّة مَن يأبى الخير في رمضان؟! هل يوجد ممتنعٌ منَ الفضل في شهر الإحسان؟! هل هناك راغبٌ عن الجنَّة زاهدٌ في نعيمها؟!

فأقول وبكلِّ أَسَفٍ وأسًى: نعمْ، وما أكثر مَن إلى الخير يدعون فيأبون، ما أكثر مَن يمتنعون ويعرضون!!

ولكي نَتَبيَّن ذلك ونفقهه، فلْنَعْلمْ أنَّ الجود ليس ما يتبادر إلى الذّهن، من أنَّه إنْفاق المال فحسب؛ بل إنَّ الجود كما ذكر الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - عشر مراتب:  
أحدها: الجود بالنَّفس، وهو أعلى مراتب الجود كما قال الشّاعر  
يَجُودُ بِالنَّفْسِ إِنْ ضَنَّ البَخِيلِ بِهَا        وَالجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الجُودِ
الثَّانية: الجود بالرِّياسة، فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها، والإيثار في قضاء حاجات الطَّالبينَ.

الثَّالثة: الجود براحته ورفاهيته، وإجمام نفسه، فيجود بها تعبًا وكدًّا في مصلحة غيره.

الرَّابعة: الجود بالعلم وبذله، وهو من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال؛ لأنَّ العلم أشرف من المال.

الخامسة: الجود بالنَّفع بالجاه، كالشَّفاعة والمَشْي مع ذي الحاجة إلى ذي سلطانٍ ونحوه، وتلك زكاة الجاه المُطَالب بها العبد، قال الشَّافعيُّ - رحمه الله:
وَأَدِّ   زَكَاةَ    الجَاهِ    فَإنِّهَا        كَمِثْلِ زَكَاةِ المَالِ تَمَّ نِصَابُهَا
السَّادسة: الجُود بِنَفْع البَدَن على اختلاف أنواعه، كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ سُلاَمَى منَ النَّاس عليه صدقةٌ، كلّ يومٍ تطلع فيه الشَّمس يعدل بين الاثنينِ صَدَقةٌ، ويعين الرَّجل على دابَّتِه فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعَه صدقةٌ، والكلمة الطَّيِّبة صدقةٌ، وكلُّ خطوةٍ يخطوها إلى الصَّلاة صدقةٌ، ويميط الأذى عنِ الطَّريق صدقةٌ)).
السَّابعة: الجود بالعِرْض، قال ابن القيِّم - رحمه الله -: وفي هذا الجود من سلامة الصَّدر وراحة القلب والتَّخلُّص مِن معاداة الخَلْق ما فيه.

الثّامنة: الجود بالصَّبر والاحتمال والإغضاء، وهذه مرتبةٌ شريفةٌ من مراتبه، وهي أنفع لصاحبها منَ الجُود بالمال، وأعزّ له وأنصر، وأملك لنفسه وأشرف لها، ولا يقدر عليها إلاَّ النُّفوس الكبار، وصاحبها يجتني عواقبها الحميدة في الدُّنيا قبل الآخرة، قال - تعالى -: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، وقال - تعالى -: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]، فذكر - تعالى - المقامات الثَّلاثة في هذه الآية: مقام العدل وأذن فيه، ومقام الفضل وندب إليه، ومقام الظُّلم وحرَّمه.
التّاسعة: الجود بالخُلُق الحَسَن والبِشر، وهو فوق الجود بالصَّبر والاحتمال والعفو، وهو الذي يبلغ بصاحبه درجة الصَّائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان، قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تحقرنَّ منَ المعروف شيئًا، ولو أن تَلْقى أخاك بوجهٍ طليقٍ))، وقال: ((إنَّ المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصَّائم))، والعبد لا يمكنه أن يسع النَّاس بحاله وماله، ويمكنه أن يسعهم بخلقه واحتماله.

العاشرة: الجود بِتَرْك ما في أيدي النَّاس، فلا يلتفت إليه ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرَّض له بحاله ولا لسانه، وهذا الذي قال فيه عبدالله بن المبارك: إنَّه أفضل من سخاء النَّفس بالبذل.

أيُّها المسلمون:
تلك أنواع الجود ومراتبه: جودٌ بالنّفس وبالمال، وجودٌ بالعلم وبالجاه، وجودٌ بالخلق وبالعرض، وجودٌ بالصَّبر واحتمال الأذى، وقد كان جوده - صلَّى الله عليه وسلَّم - شاملاً جميع أنواع الجود، مِن بذل العلم وإنفاق المال، وبذل النَّفس لله - تعالى - في إظهار دينه وهداية عباده، والحرص على إيصال النَّفع إليهم بكلِّ الطُّرق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمُّل أثقالهم، فبأيِّ هذه المراتب أخذنا؟ وأي تلك الأنواع فعلنا؟ هل جدنا بأنفسنا وبذلنا جاهنا، فشفعنا لأصحاب الحاجات وفرَّجنا الكربات؟ هل أنفقنا أموالنا وأكثرنا من الصَّدقات والهبات؟ هل فطَّرنا الصَّائمين، وخدمنا القائمين؟ هل طهَّرنا ألسنتنا من اللَّغو والرَّفث وقول الزُّور وشهادة الزُّور؟ هل عاملنا النَّاس بِخُلُقٍ حسنٍ، وابتسمنا في وجوههم؟ هل رحمنا الضُّعَفاء، وأدخلنا الفرحة والسُّرور عليهم؟ هل أجبنا دعوات المصلحين فعدنا إلى أرحامنا فوصلناها؟ هل احتملنا أذى القرابات والجيران والأصحاب؟ إن كنَّا قد فعلنا ذلك، فهنيئًا لنا العلم، ومباركٌ علينا العمل به، وإن نكنْ قد قصَّرنا في جانبٍ من هذه الجوانب، فأين منَّا الجود؟ وأين نحن من الجود؟ إنَّ الجمعيَّات الخيريَّة مشرعةٌ أبوابها للمُتَصَدِّقين، وإنَّ جمعيَّات التَّحفيظ ومكاتب الدَّعوة تنتظر الدَّعم منَ المحسنين، وإنَّ مشروعات التَّفطير متوقِّفةٌ على عطاء الباذلين، ومبادرات المتطوِّعين، فأين مَن يَتَطَوَّعون ويسدُّون الثُّغور؟ أين مَنيبحثون عنِ الحَسَنات ومضاعف الأجور؟ إنَّ ما يُرَى في الآونة الأخيرةِ مِن ضعف دَعْم مَشْرُوعات الخير، وما يلمس مِن إحجام كثيرينَ عنِ الانخراط في العمل التَّطوُّعيِّ وزهدهم فيه، وما يشاهد من ضيقٍ في العطن، وحرجٍ في الصُّدور، وعدم تحمُّل كل امرئٍ لأخيه، وزيادة التَّهاجر وانتشار التَّقاطع، والإغراق في الشَّحناء، والإصرار على التَّباغض، إنَّ كلَّ هذا ليحزُّ في النَّفس، ويصيب القلب بالحزن والأسى.

فيا أمَّة محمد بن عبدالله، الجود الجود، اقتداءً بنبيِّكم، جودوا بالنُّفوس والأموال، جودوا بالعلم والعمل، تعاونوا على البرِّ والتَّقوى، تسامحوا وتناصحوا، أحبُّوا لإخوانكم منَ الخير ما تحبُّونه لأنفسكم، اتَّقوا الشُّحَّ والبخل، احذروا الغلَّ والحقد والحسد، اجمعوا بين الصَّوم، والصَّدقة، وحسن الخلق، وطيب الكلام، وإطعام الطَّعام، فقد صحَّ عنه - صلّى الله عليه وسلّم - أنَّه قال: ((إنَّ في الجنَّة غُرُفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لِمَن ألان الكلام، وأطعم الطَّعام، وتابع الصِّيام، وصلَّى باللَّيل والنَّاس نيامٌ)).

 إنَّنا يجب أن نعرف المعنى الحقيقيّ الشّامل للجود، الذي كان عليه نبيُّنا - عليه الصَّلاة والسَّلام - فنتبعه فيه ونعمل بما استطعنا منه، ولا يكون يوم صومنا ويوم فطرنا سواءً، إنَّ مَن يدخل عليه رمضان وهو عاقٌّ لوالديه، قاطعٌ لرحمه، مصارمٌ لإخوانه، هاجرٌ لقرابته، إنَّ هذا ما عَرَف معنى الجود، ما عرف الجود مَن ساء خلقه، وقبح كلامه، وطال لسانه، ما عرف الجود مَنِ انْتَقَم لنفسه، ولم يعف ويصفحْ، ما عَرَف الجود مَن لم يدفعْ بالتي هي أحسن ويصبرْ، من لم ينفقْ بسخاءٍ في شهر العطاء فما عرف الجود، مَن لم يبذلْ في وجوه البذل المختلفة فما عرف الجود.

 ألا فاتَّقوا الله - أمّة الإسلام - واقتدوا بخير الأنام، وقدِّموا لأنفسكم في شهر الصّيام، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]. 

الخطبة الثانية
أمّا بعدُ:
فاعبدوا الله كما أمركم وأطيعوه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، ولا تعصوه، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223].

أيّها المسلمون:
اغتنموا ليالي وأيَّامًا، تمرُّ مَرَّ السَّحاب، وضاعفوا الصّالح منَ العمل لتنالوا الأجر والثّواب، وجودوا وجدوا واجتهدوا كما كان نبيُّكم يفعل، فإنَّ للجود في رمضان خصائص لا تتوفَّر إلاَّ فيه، منها شرف الزَّمان، ومضاعفة أجر العمل فيه، ومنها أنَّ في الجود فيه إعانةً للصَّائمين والقائمين على طاعتهم، ممّا يكسب المعين لهم مثل أجورهم، فكما أنَّ مَن جهَّزَ غازيًا فقد غَزَا، ومَن خلفه في أهله بخيرٍ فقد غزا، فإنَّ مَن فَطَّر صائمًا، كان له مثل أجره، ويكفي من ذلك كلّه أنَّ فيه اقتداءً بأفضل الخلق وأعبدهم وأتقاهم، وأعرفهم بما يصلح الشَّأن ويجلب الأجر، قال الإمام الشَّافعيُّ - رحمه الله -: أحبُّ للرَّجل الزِّيادة بالجود في رمضان، اقتداءً برسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ولحاجة النَّاس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصَّوم والصَّلاة عن مكاسبهم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق