في القرآن آياتٌ عديدة مشتملة على الحث على التفكر ، وبيان عظيم شأنه وجليل قدره وكبير عوائده وفوائده ، وثناءٌ على أهله وبيانٌ لعلوِّ مقامهم ورفعة شأنهم ؛ يقول الله سبحانه وتعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:219] ، ويقول سبحانه : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الرعد:3] ، ويقول جل وعلا : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:11] ، ويقول جل وعلا : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ } [الروم:8] ، ويقول الله سبحانه : {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24] ، ويقول جل وعلا : {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا ، ويقول الله عزَّ وجل في الثناء على أوليائه المقربين أولي الألباب مبيِّناً عظيم مقامهم وعلوَّ شأنهم وجمال تفكرهم : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] .
وهذا التفكر العظيم الذي دعا الله عزَّ وجل عباده إليه وحثَّهم عليه ورغَّبهم فيه مفتاحُ كل خير ، وأساس كل فلاحٍ وصلاح ، ومنبع كل فضيلة ، وهو من عبوديات القلب العظيمة الجليلة ، وهو ينقل الإنسان من الغفلة إلى اليقظة ، ومن المعصية إلى الطاعة ، ومن المهانة إلى المعزَّة ، وينقله من الحقارات والدناءات وخسيس الأمور وحقيرها إلى معالي الأمور ورفيعها وعليِّها.
من تفكر في عظمة الله وأنه عزَّ وجل مطَّلعٌ على العباد لا تخفى عليه منهم خافية ، سميعٌ بصير ، عليمٌ قدير ؛ فإن هذا التفكر يمنعه من الوقوع في معصية الله عزَّ وجل ، وقد قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر:28] .
من تفكر في الآخرة وأنها ارتحلت مقبِلة وأنها هي الحيَوان ، وتفكر في نعيمها وما أعدَّ الله سبحانه وتعالى لأوليائه من عظيم المآب وجميل الثواب ؛ فإن ذلك يحفِزه ويدفعه لحُسْن التهيؤ وتمام الاستعداد ليوم المعاد .
من تفكر في هوان الدنيا وحقارتها وسرعة زوالها وتصرُّمها ؛ فإنه لن يجعلها أكبر هــمِّه ولا مبلغ علمه .
من تفكر في الذنوب وعظَم خطورتها وسوء عواقبها على أهلها في الدنيا والآخرة ؛ فإنه يحاذر من الوقوع فيها ويتجنَّبها .
من يتفكر في العبادات وأنه إنما خُلق في هذه الحياة للقيام بها وتحقيقها ؛ فإنه يجاهد نفسه على القيام بها على أتمِّ وجهٍ وأحسن حال .
من يتفكر في هذه المخلوقات وما فيها من جمالٍ وآيات باهرات وحججٍ ساطعات وبراهين واضحات ؛ أدخلت إلى قلبه العبرة والعظة . والتفكرُ في آلاء الله سبحانه وتعالى ونعَمه عبوديةٌ عظيمة تجعل القلب يقبِل على الله خضوعاً وذُلا وإيماناً بكمال الخالق وعظمة المبدع سبحانه ، فهاهم أولوا الألباب وقد مرَّ معنا ثناء الله عليهم {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ويُثمر هذا التفكر تلك الدعوات العظيمات { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .
ومن لم يَشغَل قلبه بالأفكار النافعات والتفكير الذي يعود عليه بالخيرات في دنياه وأخراه انشغل قلبه بأفكارٍ رديئة وتفكرٍ مذموم في أمور منحطَّة وأعمالٍ خسيسةٍ حقيرة ؛ ولهذا يشبِّه بعض أهل العلم النفس البشرية بأن مثلها كمثل الرحى دائمة الدوران تطحن كل ما أُلقي فيها ، فمن وضع في هذه الرحى قمحاً وشعيراً وجد طحيناً ينتفع به ، ومن يضع فيها قذراً أو حجراً أو حصًى أو رملاً أو زجاجاً فلن يحصِّل منه طحيناً ينتفع به ، وهكذا نفس الإنسان تدور بأفكار وأفكار ثم ينبع عن تلك الأفكار إرادات وعزوم ؛ فمن كانت أفكاره وتفكره فيما ينفعه في معاشه ومعاده فإنه سيمضي في هذه الحياة على خير حال ، ومن كانت أفكاره في أمورٍ حقيرة وأعمال دنيئة ويخطِّط في أفكاره كيف يعصي وكيف يرتكب الآثام وكيف يقع في الذنوب وهكذا دواليك في أفكارٍ عديدةٍ خسيسةٍ حقيرة ؛ كيف ستكون حال من كان هذا أمره !! .
تأملوا في هذه القصة ؛ رأى عبد الله ابن المبارك رحمه الله تعالى أحد رفقائه مفكراً فقال له : أين بلغت؟ - وكثيراً ما نقول هذه الكلمة ؛ أين وصلت يا فلان ؟ أين سرحت ؟ أين ذهبت ؟ - قال : "بلغت الصراط " .
شتان بين من يرتحل بأفكاره إلى التفكر فيما ينفعه في معاده ومعاشه ، يتفكر في وقوفه بين يدي الله ، ينظر في غده وحساب الله تبارك وتعالى له { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ، شتان بين من أفكاره تصل به إلى الصراط خوفاً وإشفاقا ، وبين من أفكاره تسبح في أوحال الذنوب وحقارات المعاصي سفولاً وإغراقا .
ما أحوجنا إلى أن نعالج أفكارنا ، وأن نصحِّح مسارنا ، وأن نجاهد أنفسنا على الواردات النافعة والأفكار القويمة التي تعود علينا بالنفع العظيم والخير العميم في الدنيا والآخرة .
ألا ما أعظم الخسران وأشدَّ الحرمان لمن أسلَم بيت أفكاره إلى الشيطان - عياذاً بالله - يضع فيها وساوسه ويُملي له الشرَّ إملاءا ويؤزُّه إلى المعاصي أزًّا ويدفعه إليها دفعا ؛ فهو مستسلمٌ للشيطان ومنقادٌ لوساوسه ، وأفكاره توصف بأنها أفكار شيطانية ؛ ألا ما أسوأ هذه الحال وما أقبحها وما أشنعها.
إن التفكر كما أمر الله عزَّ وجل به ودعا إليه عبوديةٌ عظيمة الشأن جليلة القدر ، والعبد ليصحِّح نفسه في هذا المقام يحتاج أولاً إلى استعانة بالله جلَّ وعلا ، ويحتاج ثانياً إلى مجاهدة للنفس ؛ بإبعادها عن كل بابٍ ومنفذٍ يجلب إلى قلبه أفكاراً رديئة وتصوراتٍ خسيسة ، ويحرص على كل المنافذ والأبواب التي تجلب لقلبه ما ينفعه ويعود عليه بالخير والفائدة في دينه ودنياه .
أرأيتم لو أن شخصاً أسلم بصره ونظره وسمعه إلى مشاهداتٍ محرمة وصورٍ نُهيَ عن النظر إليها ومشاهدتها وسماعات محرمة ؛ كيف ينشد مع ذلك لقلبه صفاءً ونقاءً وزكاء ؟! وقد أوسع لنفسه المنافذ التي تجلب على قلبه واردات السوء وتجلب له أمور الشر عياذاً بالله من ذلك ، فمن جاهد نفسه واستعان بربه سبحانه وتعالى وُفِّق لكل خير .
وكم هو جميل بك في هذا المقام أن تستحضر ما ينفعك من تفكرٍ سليم وتأمل قويم واتعاظ واعتبار وادِّكار ، وهذا مقامٌ يطول شرحه لكن أشير إلى مثالٍ واحد ، والأمثلة على ذلك كثيرة وقد مر شيء منها .
أرأيتم لو أن إنساناً جائعاً اشتد به الجوع ثم وُضع بين يديه طعام شهي وأكل لذيذ يحبه ونفسه تميل إليه ثم لما مدَّ يده إلى ذلك الطعام قيل له : إن هذا الطعام مسموم ؛ إن أكلْتَ منه متَّ من ساعتك ، أرأيتم وقد أيقن بأن ذلك الطعام مسموم وأنَّ فيه هلكته أيضعُ يده في ذلك الطعام أو يكفَّها ؟ سبحان الله !! كيف يتجنَّب الإنسان طعاماً خوف مضرته !! ولا يتجنب الذنوب خوف معرَّتها يوم لقاء الله سبحانه وتعالى ؟! .
فمثل هذا التفكر والتأمل ينفع الإنسان نفعاً عظيماً في إقدامه وإحجامه ، وحبه وبغضه ، وعطائه ومنعه ، وجميع أموره . نسأل الله عزَّ وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرزقنا أجمعين قلباً سليماً ولساناً صادقا ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن يؤتي قلوبنا تقواها وأن يزكيها فإنه تبارك وتعالى خير من زكاها.